التقية وحدودها في تراث الامام الصادق عليه
السلام
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على خير
خلقه محمد واله الطاهرين
أتقدم بالشكر الجزيل للدعوة الكريمة
بالمشاركة في مؤتمر الامام الصادق عليه السلام التاسع من قبل سماحة العلامة السيد
مرتضى الكشميري ممثل المرجعية العليا في اوريا الراعي لهذا المؤتمر وبالتعاون مع
مؤسسة التراث في برلين ومؤسسة ام البنين في مدينة اسن.
موضوع المشاركة يحمل عنوان التقية وحدودها
في تراث الامام الصادق عليه السلام
برغم ان التقية بمعنى إخفاء الراي احترازا
من الضرر المحتمل من قبل من لا يحتمل ابداء رأي مخالف، برغم ان التقية بهذا المعنى
يمارسها أي عاقل انطلاقا من الفطرة، وبرغم ان أصل تشريع التقية جاء في القرآن
الكريم فقد قال سبحانه وتعالى:
(لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ
أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ
فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) آل عمران 28.
وقال تبارك وتعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ
مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ
وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ
عَذَابٌ عَظِيمٌ) النحل 106.
قال الصنعاني (م 211ه) في تفسيره: عن محمد
بن عمار قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا فشكا ذلك
إلى النبي (ص) فقال النبي (ص) كيف تجد قلبك؟ قال مطمئن بالإيمان ثم قال النبي (ص) فإن
عادوا فعد ([1]).
وقال الشيخ في تفسير التبيان:
نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر (رحمه الله)
أكرهه المشركون بمكة بأنواع العذاب، وقيل: إنهم غطوه في بئر ماء على ان يلفظ بالكفر
وكان قلبه مطمئنا بالإيمان، فجاز من ذلك، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله جزعا فقال
له النبي صلى الله عليه وآله كيف كان قلبك؟ قال كان مطمئنا بالإيمان، فأنزل الله فيه
الآية. وأخبر ان الذين يكفرون بالله بعد ان كانوا مصدقين به بأن يرتدوا عن الاسلام
" فعليهم غضب من الله " ثم استثنى من ذلك من كفر بلسانه، وكان مطمئن القلب
بالإيمان في باطنه، فانه بخلافه ([2]).
وبرغم ان التقية بهذا المعنى مقبولة عند
المذهب الآخر، فهي واردة في القران الكريم، الا ان عنوان التقية غدا سمة خاصة من
سمات الشيعة فعندما يطلق لفظ التقية يتبادر الى الذهن ارتباط هذا المفهوم بفكر
الشيعة وانه من مختصاتهم، ومهما يكن من حال فقد استعمل لفظ التقية في
ثلاثة معان:
المعنى الأول الأصل اللغوي:
التقية في اللغة التَقِيَّة مصدر اتَّقى ([3])
والاسم التقوى وهي مأخوذة من الوقاية
وتاؤها بدل من الواو بمعنى الصيانة والتحفظ عن الضرر، وعن ابن الأعرابي: التقاة ،
والتقيّة ، والتقوى ، والاتقاء كلّه واحد ([4])
في الحديث أيضاً : « قلت : وهل للسيف من تقيّة ؟ قال : نعم ، تقيّة
على إقذاء ، وهدنة على دخن».
والخلاصة ان المعنى اللغوي العام هو التحفظ
والاحتماء مما يخشى ضرره ولو في الأمور التكوينية، كما إذا اتقى من الداء بشرب
الدواء، ومنه قولهم (اتق شر من احسنت اليه).
المعنى الثاني
المعنى الخاص وهو التقيّة المصطلح عليها
أعني التقيّة من المختلفين معنا في الدين او المذهب في حال الخشية من التعرض
للإيذاء.
وتجدر الإشارة الى انه روي عن الامام
الصادق عليه السلام ان الإذاعة ضد التقية.
والإذاعة ظاهرا هي قول ما يؤدي للضرر
بالقائل او ما يؤدي للإضرار ببعض المؤمنين، سواء وافق اعتقاد القائل للواقع او لا.
فقد جاء عن ابي عبد الله الصادق عليه السلام: إن الله عز وجل خلق
العقل ...ثم جعل للعقل خمسة وسبعين جندا...فكان مما أعطى العقل من الخمسة والسبعين
الجند: والتقية وضدها الإذاعة ([6]).
وعن سماعة بن مهران، قال: قال لي عبد صالح
عليه السلام: يا سماعة أمنوا على فرشهم وأخافوني.... وعلق العلامة المجلسي قائلا:
بيان: " أخافوني " أي بالإذاعة
وترك التقية، والضمير في " أمنوا" راجع إلى المدعين للتشيع، الذين لم
يطيعوا أئمتهم في التقية، وترك الاذاعة، وأشار بذلك إلى أنهم ليسوا بشيعة لنا ([7]).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) عن أبيه
قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: مذيع السر شاك، وقائله عند غير أهله
كافر ومن تمسك بالعروة الوثقى فهو ناج، قلت: ما هو؟ قال: التسليم ([8]).
وانت تلاحظ ان تعبير الشيعي عن بعض الآراء
والمعتقدات التي يراها بغض النظر عن صحتها وعدم صحتها تؤدي لتكفيره كما في زماننا
هذا طبقا لماضي الازمان، فالتاريخ يكرر نفسه.
وعن محمد الخزاز، عن أبي عبد الله (عليه
السلام) قال: من أذاع علينا حديثنا فهو بمنزلة من جحدنا حقنا. قال: وقال لمعلى بن
خنيس: المذيع حديثنا كالجاحد له ([9]).
قال العلامة المجلسي:
بيان: يدل على أن المذيع والجاحد متشاركون
في عدم الايمان، وبراءة الامام منهم، وفعل ما يوجب لحوق الضرر، بل ضرر الإذاعة أقوى،
لان ضرر الجحد يعود إلى الجاحد، وضرر الإذاعة يعود إلى المذيع وإلى المعصوم وإلى
المؤمنين ولعل مخاطبة المعلى بذلك لأنه كان قليل التحمل لأسرارهم، وصار ذلك سببا لقتله،
وروى الكشي باسناده عن المفضل قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام يوم قتل فيه
المعلى فقلت له: يا ابن رسول الله ألا ترى إلى هذا الخطب الجليل الذي نزل بالشيعة
في هذا اليوم؟ قال: وما هو؟ قلت: قتل المعلى بن خنيس، قال: رحم الله المعلى، قد
كنت أتوقع ذلك، إنه أذاع سرنا، وليس الناصب لنا حربا بأعظم مؤنة علينا من المذيع
علينا سرنا، فمن أذاع سرنا إلى غير أهله لم يفارق الدنيا حتى يعضه السلاح أو يموت
بحبل ([10]).
وفي صحيح ابن أبي يعفور قال: قال أبو عبد
الله (عليه السلام): من أذاع علينا حديثنا سلبه الله الايمان ([11]).
وفي صحيح محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر
(عليه السلام) يقول: يحشر العبد يوم القيامة وما ندى دما فيدفع إليه شبه المحجمة
أو فوق ذلك فيقال له: هذا سهمك من دم فلان، فيقول: يا رب إنك لتعلم أنك قبضتني وما
سفكت دما فيقول: بلى سمعت من فلان رواية كذا وكذا، فرويتها عليه فنقلت حتى صارت
إلى فلان الجبار فقتله عليها وهذا سهمك من دمه ([12]).
المعنى الثالث
ليس له أي ارتباط بالتقية من ناحية المعنى
اللغوي إذ ليس فيه أي خشية من الضرر التكويني كما في المعنى الأول، كما ليس فيه أي
خشية من الضرر من المختلفين معنا في المذهب كما في المعنى الثاني، فهذا المعنى
الثالث خال من الخشية من الضرر تماما وحقيقته الاندماج الاجتماعي مع المسلمين من
غير اتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام بالاشتراك معهم في الصلاة، وفي تشييع
جنائزهم، وزيارة مرضاهم، ونحو ذلك من الأمور الاجتماعية، ليس خوفا من أي ضرر، ولا
خشية من أي اعتداء، بل لأجل ترسيخ المحبة بين
المسلمين، وتقوية الروابط بينهم على اختلاف مذاهبهم، ويدل على ذلك مجموعة من
الروايات عن اهل بيت العصمة عليهم السلام فمن ذلك:
1- صحيح حماد بن عثمان، عن أبي عبد الله (عليه
السلام)، أنه قال: من صلى معهم في الصف الاول كان كمن صلى خلف رسول الله (صلى الله
عليه وآله) في الصف الأول.
2- صحيح حريز، عن زرارة قال: كنت جالسا عند
أبي جعفر (عليه السلام) ذات يوم إذ جاءه رجل فدخل عليه فقال له: جعلت فداك، إني
رجل جار مسجد لقومي، فاذا أنا لم أصل معهم وقعوا في وقالوا: هو كذا وكذا، فقال:
أما لئن قلت ذلك لقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام): من سمع النداء فلم يجبه من
غير علة فلا صلاة له...الحديث.
3- عن أبي علي ـ في حديث ـ قال: قلت لابي
عبد الله (عليه السلام): إن لنا إماما مخالفا وهو يبغض أصحابنا كلهم؟ فقال: ما
عليك من قوله، والله لئن كنت صادقا لانت أحق بالمسجد منه، فكن أول داخل وآخر خارج،
وأحسن خلقك مع الناس وقل خيرا.
4- صحيح عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله
(عليه السلام)، أنه قال: ما من عبد يصلي في الوقت ويفرغ ثم يأتيهم ويصلي معهم وهو
على وضوء إلا كتب الله له خمسا وعشرين درجة.
5- صحيح عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله
(عليه السلام)، أنه قال أيضا: إن على بابي مسجدا يكون فيه قوم مخالفون معاندون فهم
يمسون في الصلاة فأنا أصلي العصر ثم أخرج فاصلي معهم، فقال: أما ترضى أن تحسب لك
بأربع وعشرين صلاة.
وقد جاء في تقريرات سيدنا آية الله العظمى
السيد الخوئي قدس سره:
صرح بحكمة تشريع التقيّة في هذه الموارد
وعدم ابتنائها على خوف الضرر في صحيحة هشام الكندي قال «سمعت أبا عبدالله (عليه
السلام) يقول : إياكم أن تعملوا عملاً نعير به ، فان ولد السوء يعير والده بعمله ،
كونوا لمن انقطعتم إليه زيناً ولا تكونوا عليه شيناً ، صلّوا في عشائرهم، وعودوا
مرضاهم واشهدوا جنائزهم ولا يسبقونكم إلى شيء من الخير فأنتم أولى به منهم ، والله
ما عبد الله بشيء أحب إليه من الخباء ، قلت : وما الخباء ؟ قال : التقيّة»
لدلالتها على أن حكمة المداراة معهم في الصلاة أو غيرها إنما هي ملاحظة المصلحة
النوعية واتحاد كلمة المسلمين من دون أن يترتّب ضرر على تركها ، فان ظاهرها
معروفية أصحابه (عليه السلام) بالتشيّع في ذلك الوقت ، ولم يكن أمره بالمجاملة
لأجل عدم انتشار تشيّعهم من الناس ، وإنما كان مستنداً إلى تأديبهم بالأخلاق
الحسنة ليمتازوا بها عن غيرهم ويعرفوا الشيعة بالأوصاف الجميلة وعدم التعصب
والعناد واللجاج وتخلقهم بما ينبغي أن يتخلق به حتى يقال: رحم الله جعفراً ما أحسن
ما أدب أصحابه .
كما ورد في رواية زيد الشحام عن أبي
عبدالله (عليه السلام) أنه قال: «يا زيد خالقوا الناس بأخلاقهم، صلّوا في مساجدهم
وعودوا مرضاهم واشهدوا جنائزهم ، وإن استطعتم أن تكونوا الأئمة والمؤذنين فافعلوا
، فإنكم إذا فعلتم ذلك قالوا هؤلاء الجعفرية ، رحم الله جعفراً ما كان أحسن ما
يؤدب أصحابه ، واذا تركتم ذلك قالوا : هؤلاء الجعفرية فعل الله بجعفر ما كان أسوأ
ما يؤدب أصحابه».
وقد ورد في صحيحة عبد الله بن سنان أنه قال:
«سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: اُوصيكم بتقوى الله ولا تحملوا الناس على
أكتافكم فتذلوا، إن الله عزّ وجلّ يقول في كتابه: (وقولوا للنّاس حسناً) ثم قال:
عودوا مرضاهم واحضروا جنائزهم واشهدوا لهم وعليهم، وصلّوا معهم في مساجدهم حتى
يكون التمييز وتكون المباينة منكم ومنهم»
، وهذا قسم خاص من التقيّة فلنعبر عنه
بالتقية بالمعنى الأعم، لمكان أنها أعم من التقيّة بالمعنى العام، إذ لا يعتبر في
ذلك ما كان يعتبر في ذلك القسم من خوف الضرر واحتماله على تقدير تركها، بل هذا
القسم خارج من المقسم، لعدم اعتبار احتمال الضرر في تركه ([13]).
وقال بعض الاعاظم قدس سره: واما التقية
المداراتية المرغوب فيها مما تكون العبادة معها أحب العبادات وأفضلها فالظاهر
اختصاصها بالتقية عن العامة كما هو مصب الروايات على كثرتها ولعل السر فيها صلاح
حال المسلمين بوحدة كلمتهم وعدم تفرق جماعتهم لكي لا يصيروا أذلاء بين ساير الملل....
ففي رواية عبد الله بن يعفور عن أبي عبد
الله عليه السّلام قال اتقوا على دينكم، واحجبوه بالتقية، فإنه لا إيمان لمن لا
تقية له، انما أنتم في الناس كالنحل في الطير، ولو ان الطير يعلم ما في أجواف
النحل ما بقي منها شيء الا أكلته، ولو ان الناس علموا ما في أجوافكم إنكم تحبونا
أهل البيت لأكلوكم بألسنتهم ولنحلوكم في السر والعلانية رحم الله عبدا منكم كان
على ولايتنا ([14]).
والغريب في الامر ان منهج الامام الصادق
عليه السلام في الحث على الاندماج بين المسلمين والتواصل معهم ليكونوا جسدا واحدا
وليكونوا متقاربين، هذه الدعوة الكريمة تم تشويهها واستخدمت سلاحا لضرب الشيعة
بزعم انهم منافقون يظهرون شيئا ويكتمون شيئا آخر، ومثل هذا الاتهام الخطير يجافي
الحقيقة بمسافات، أولا لان النفاق اظهار الايمان مع كتمان الكفر، لكن الشيعة
يبطنون الايمان كما يظهرونه وثانيا التقية بالمعنى الثاني ليست سوى إخفاء ما
يعتقده الشيعي بما يرتبط بمذهبه خوفا من الايذاء والظلم الذي قد يلحق به نتيجة
اظهار معتقده من قبل من لا يحتمل ابداء شيء مخالف لما يراه، وثالثا التقية بالمعنى
الثالث وهو التواصل والاندماج مع اتباع المذهب المختلف عن مذهب أهل البيت عليهم
السلام انما هو لأجل التحاب والتقارب والتلاقي وتقوية أزر المسلمين جميعا، فكيف
تكون دعوة الخير مسبة يعاب بها الشيعة؟
لعلني لا أجافي الحقيقة حين أقول: ان
التنافس على السلطة والثروة يستخدم الخلاف المذهبي ويحوله لنزاع من أجل البلوغ
للسلطة والثروة، وبعبارة أخرى: تصنع معركة ونزاع بدواع واهداف سياسية فتتخذ
القضايا الدينية والمذهبية ذريعة من خلالها يتم استهداف بعض الفئات لغرض الوصول
لأهداف سياسية واغراض غير نظيفة في مبادئها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق