الحكم الصالح في بلد ما يعم خيره جميع المواطنين دون تمييز مذهبي أو طائفي أو قبلي أو نحو ذلك.
واذا تحقق ذلك يقدر المواطنون قيمة مواقف القوى السياسية بمدى ما تفرزه من نتائج ومصالح او مضار للجميع بغض النظر عن الانتماء الطائفي والقبلي وغيرهما.
وفي هذه الحالة يسلم الدين والمذهب من التجاذب والاساءة الذين لا يرتبطان به، فيتحالف أصحاب الديانات المختلفة والمذاهب المتنوعة على أساس من التوافق في رؤية معينة تشكل مصالح مشتركة مع احتفاظ كل صاحب دين ومذهب بخصائصه.
فالقضايا السياسية التي يختلف الناس فيها أغلبها لا ترتبط مباشرة بمبادئ الاديان والمذاهب، بل لها علاقة بتوزيع الثروة والعدالة الاجتماعية وتحقيق المصلحة العامة ونحو ذلك من عناوين تتوافق عليها الاديان والمذاهب غير ان الاختلاف في الطريق والتقدير والقراءة وهي أمور في غالبيتها لا صلة لها بالاديان والطوائف بشكل مباشر.
اما حين ينتهج الحكم تمييزا صارخا على أساس المذهب والطائفة بين المواطنين كما هو حال الحكم في البحرين فان الفرد يتبرمج ولائه السياسي للطائفة وزعمائها الدينيين والسياسيين بصورة تلقائية.
ببساطة لانه يرى في الطائفة مدافعا عن وجوده ومصالحه ويغيب عن ناظره أي خطأ قد يقع فيه بعض زعماء الطائفة المشتغلين بالسياسة لان الخطأ يساوي فقدان السند والمدافع عن حقوقه فيستميت في الدفاع عنه وتبرير كافة مواقفه.
وفي نفس الوقت لا يرى في مواقف الزعيم من الطائفة الاخرى أي مقاربة للصواب فتصرفات الحكم التمييزية تشكل هاجسا ووقودا لحرب باردة بين الطائفتين أو الطوائف.
هذا الوقود قد يتحول لحرب فعلية مدمرة للجميع كما حدث ويحدث في العراق ودول أخرى.
وهكذا تسود الاجواء المحلية والاقليمة تبعية صنمية للزعيم السياسي المنتمي لهذه الطائفة أو تلك، بدرجة يعتبر فيها هذا الزعيم ممثلا للدين والطائفة في قراءة موقف أو تقدير وضع سياسي معين في حين ان الموقف السياسي او التقدير لحالة معينة لا ترتبط مباشرة بالدين او المذهب فما يحصل عند الشارع العام من أبناء هذه الطائفة أو تلك هو أقرب ما يكون لتوكيل الزعيم في التفكير نيابة عنهم وأن هذه التبعية في الموقف والفكرة تمثل الدين فهو ليس قارئا سياسيا ومقدرا للوضع بما يملكه من تجارب ومخزون فحسب بل هو الناطق الرسمي باسم السنة أو الشيعة أو الدروز أو أي طائفة أخرى ينتمي لها هذا الزعيم.
فالاختلاف معه خروج على المذهب وعدم الاتفاق معه في هذا الرأي أو ذاك طعن للطائفة في خاصرتها.
وهنا تلتبس السياسة بالدين فاذا ما أصاب الزعيم ونجح دل ذلك على صوابية هذا المذهب وحقانيته.
وفي المقابل الويل كل الويل لهذا المذهب اذا ما أخفق الزعيم السياسي الذي ينتمي اليه او أخطأ.
فقد قيل: (الوكيل كالاصيل) ولا تعجب اذا ما شاهدت متحولا هنا أو هناك لطائفة أو متحولا عنها بسبب موقف سياسي.
الاداء السياسي والفكري لهذا التيار أو ذاك ولهذه الشخصية أو تلك يعتمد على قراءة لمعطيات متشابكة ترتبط بالتاريخ ودروسه والحاضر وعبره بالثقافة وروافدها بالحضارة ومنتجاتها الخ ما هنالك.
كما ان العملين السياسي والفكري متشعبان بتشعب المواضيع والاحداث وتنوع القضايا والمواضيع.
ووفق هذين البعدين بعد التشابك المعقد وبعد التنوع الواسع، ما من أحد يخوض غمار السياسة أو الفكر الا ويتعثر هنا أو هناك فما منكم الا واردها حكما مقضيا من ضعف البشر ونقصه.
وعلى هذا الاساس يجب ان لا نجعل من خطأ هنا أو اشتباه هناك مسبة وداعيا للقطيعة والتسقيط الاجتماعي أو التوهين.
ولا من صواب ما دليلا على صوابية المذهب.
ويجب أن يسود الاحترام والمحبة بين الاخوة بدلا من النفرة والقطيعة.
كما يجب من جهة أخرى تقبل النقد من أجل البناء لا بمعنى الموافقة على صحة وجهة نظر المنتقد، بل بمعنى عدم الانزعاج من النقد ومحاولة دراسة النقد لتبين الرأي الصائب، والاعتراف بالخطأ حين انكشافه.
فداء الطائفية اذا ما سمح له بالتسلل يشطر المجتمع ليس الى طوائف متصارعة في الوجود والمصالح فحسب بل الى فئات متفتتة ومتناحرة داخل الطائفة الواحدة فالسنة والشيعة وغيرهم ينقسمون الى تيارات متعددة داخل المذهب نفسه وتتزايد التقسيمات يوما بعد يوم مما يزيد في الضعف والخور ليطال الشرر جميع الطوائف ويحترق الجميع في أتون الفتنة.
وصدق الامام علي بن أبي طالب (ع) حيث قال فيما روي عنه في نهج البلاغة:
(ووالله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور الا عليَ خاصة)
لذا تنبه العلماء والفقهاء للخطر الداهم فسدوا أبوابه وأغلقوا منافذه.
فنرى فقهاء الشيعة رغم أنهم يعتقدون تبعا لائمتهم عليهم السلام ان من أنكر أحد الائمة الاثني عشر فهو كمن أنكرهم جميعا عليهم السلام.
الا ان نظرتهم العملية واقعية فهي تنتقد ولكنها تحترم تخالف وتجل من تخالفه تجادل وتعظم من لا تتفق معه.
برغم ان الاختلاف يمس جانبا عقائديا حساسا جدا.
وبرغم ان المسائل لا ترتبط بالسياسة والشأن العام ولكنهم ادركوا بثاقب نظرتهم ان النزاع يضر بالجميع فهذا شيخ الطائفة رحمه الله تعالى يؤلف كتاب الاختلاف كدراسة مقارنة للآراء الفقهية على المذاهب المختلفة في سعة صدر كبيرة وعدم نفي للآخر مما يؤكد الاعتراف به.
وهذا السيد المرتضى علم الهدى يقارن بين رؤى الشيعة وغيرهم في المسائل المختلفة والمتعددة.
وقد اعتبر الشيخ المفيد قدس سره (متوفى 413هـ) جماعة من الفقهاء الذين لا يتفقون مع العقيدة الامامية الاثني عشرية اعتبرهم من ( الفقهاء الاعلام والرؤساء المأخوذ عنهم الحلال والحرام، والفتيا والاحكام، الذين لا يطعن عليهم، ولا طريق إلى ذم واحد منهم)
[جوابات أهل الموصل ص 25 للشيخ المفيد]
منهم سماعة بن مهران واسحاق بن جرير وهما من الواقفة الذين وقفوا على إمامة الامام موسى الكاظم عليه السلام وانكروا إمامة الامام علي الرضا عليه السلام.
وعبر النجاشي – زميل الشيخ الطوسي عند الشيخ المفيد- عن فقهاء ليسوا على عقيدتنا الامامية الاثني عشرية عبر عنهم بانهم من أصحابنا ووثقهم وترحم عليهم ونحا هذا المنحى زميله الشيخ الطوسي أيضا وغيره من فقهائنا الكرام، مع ان عبارة (أصحابنا) لمن لا يعلم تطلق على المتفق عقائديا دون المختلف.
- فقد قال النجاشي (متوفى450 هـ) في ترجمة داود بن فرقد:
وقد روى عنه هذا الكتاب جماعات من أصحابنا - رحمهم الله - كثيرة، منهم أيضا إبراهيم بن أبي بكر محمد بن عبد الله بن النجاشي المعروف بابن أبي السمال. [رجال النجاشي- النجاشي ص 159.]
فقد عد إبراهيم بن أبي بكر من أصحابنا مع أنه من الواقفة، قال النجاشي في ترجمته:
ثقة هو وأخوه إسماعيل بن أبي السمال، رويا عن أبي الحسن موسى عليه السلام وكانا من الواقفة، وذكر الكشي عنهما في كتاب الرجال حديثا شكا ووقفا عن القول بالوقف. [رجال النجاشي ص21]
2- قال الكشي (متوفى 430 هـ 951م) في كتاب اختيار معرفة الرجال:
وكان زرارة هكذا يصلي في الصيف، ولم أسمع أحدا من أصحابنا يفعل ذلك غيره وغير ابن بكير. [اختيار معرفة الرجال - الشيخ الطوسي ج 1 ص 355.]
فان ابن بكير (عبد الله بن بكير) من الفطحية ومع ذلك عده من جملة أصحابنا.
3- وقال في كتاب اختيار معرفة الرجال أيضا:
قال محمد بن مسعود: عبد الله بن بكير وجماعة من الفطحية هم فقهاء أصحابنا. [اختيار معرفة الرجال - الشيخ الطوسي ج 2 ص 635.]
4- قال الشيخ الطوسي (متوفى 460هـ) في الفهرست:
ذكرت كل واحد من المصنفين وأصحاب الأصول فلابد من ان أشير إلى ما قيل فيه من التعديل والتجريح، وهل يعول على روايته أو لا، وأبين عن اعتقاده وهل هو موافق للحق أو هو مخالف له، لان كثيرا من مصنفي أصحابنا وأصحاب الأصول ينتحلون المذاهب الفاسدة، وان كانت كتبهم معتمدة. [الفهرست- الشيخ الطوسي ص 32.]
5- جاء في فهرست الشيخ أيضا:
الحسن بن فضال، فطحي المذهب، ثقة، كوفي، كثير العلم، واسع الرواية والأخبار، جيد التصانيف، غير معاند، وكان قريب الأمر إلى أصحابنا الإمامية القائلين بالاثني عشر.[
الفهرست- الشيخ الطوسي ص 156.]
بل نجد فقهائنا لا يجدون حرجا في الاعتماد على رواة السنة فقد قال الشيخ الطوسي (متوفى 460هـ) رحمه الله تعالى:
عملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث وغياث بن كلوب ونوح بن دراج والسكوني وغيرهم من العامة عن أئمتنا عليهم السلام. [عدة الاصول ج1، ص 149]
واليوم تتربع فتاوى كثيرة لفقهائنا المعاصرين في رسائلهم العملية مستندة لرواة مختلفين عقائديا مع الامامية الاثني عشرية.
فالاختلاف في مسألة سياسية أو دينة ما لا يوجب القطيعة ولا يصحح البينونة والتشاحن والتباغض.
فهل يضع الكل خلافاته الدينية والسياسية جانبا فلا تتوزع المساجد والمواقع بين التيارات والتوجهات المختلفة؟.
وهل نحلم بأن يضع السنة والشيعة وجميع التيارات الوطنية يدهم بيد بعض لتنتصر مصالح الوطن على المصالح الفئوية الضيقة؟.
هناك تعليقان (2):
سلام سماحة السيد لي سؤال معلق على المقالة الممتازة..وخصوصاً أن الكثير قد علق على أن الدين هو سبب الأختلاف في الأمة منذ 1400سنة..
السؤال ..
ما معنى صاحب فاسدالدين و المعاند إصطلاحاً..؟
الاخ العزيز حسن الزاكي دام موفقا
السلام عليكم
شكرا لزيارتكم وتفضلكم بالتعليق.
لم يتضح لي سؤالك.
إرسال تعليق