قال تبارك وتعالى:
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَالْعَصْرِ {العصر/1} إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ {العصر/2} إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ {العصر/3}
وقال سبحانه:
ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ {البلد/17} أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ {البلد/18}
التواصي من باب (التفاعل) صرفيا وهذا الباب لا يصح بدون صدور (المادة) من اثنين او اكثر فلا يقال للفرد انه تواصى بالحق لمجرد انه أوصى به فالتواصي عبارة عن ان يُوصِي المؤمن غيره كما انه يُوصَي ومعنى تبادل الوصية ليس اقتصار دائرتها على المؤمنين ليكون المفاد؛ (ليوصِ المؤمن أخاه المؤمن).
بل المطلوب من المؤمن:-
1- ان يوصي بالحق من جهة وهنا متعلق الوصية بالحق غير محدد بالمؤمن أي المطلوب من المؤمن ان يوصي المؤمن وغير المؤمن أيضا،
لوضوح ان الوصية بالحق لغير المؤمن مطلوبة ومحبوبة اما على نحو الوجوب أو على نحو الاستحباب حسب موضوع الوصية بالحق.
2- وان يكون موصى بالحق من جهة أخرى وليس معنى مطلوبية ان يكون المؤمن موصى بالحق هو ان يدعوا الناس لان يوصوه بالحق كلا،
كما ان الوصية بالحق من زيد لعمرو لا يمكن ان يكلف بها عمرو.
وهكذا تعمد الخطأ لا يمكن ان يكون مطلوبا لهدف وصية الاخرين للمخطئ بالحق.
اذن ما هو معنى ان يكون المؤمن موصى بالحق؟
أقول: معناه ان يقبل الوصية بالحق التي لم يحدد مصدرها فحتى لو صدرت من غير المؤمن عليه ان يقبلها طالما كانت حقا،
بعد الفراغ من ان معنى التواصي هو ان يوصي (بكسر الصاد) المؤمن وان يوصى (بفتح الصاد).
وبكلمة أخرى يرسل الوصية ويستقبلها وهكذا ليس في آيات التواصي شرط صدور الوصية من مؤمن لقبولها
ولا شرط الايمان في مستقبلها فالآية تقول بوضوح ان المؤمنين يوصون غيرهم كما يقبلون وصية الغير.
ولا غرابة في ان يدعو القرآن لقبول الوصية من الآخر وان لم يكن مؤمنا فالحق أحق أن يتبع وكما قيل: (خذ الحكمة ولو من رؤس المجانين).
فمن الضروري ترسيخ مبدأ النقد المتبادل ان ينتقد وان يقبل النقد وبتعبير القرآن الكريم (التواصي بالحق) (والتواصي بالصبر) (والتواصي بالمرحمة).
وهذا المبدأ عام لا يستثنى منه أحد لا يتمتع بالعصمة.
أجل يجب ان يكون النقد نظيفا من الشتم وخاليا من السباب وفارغا من التوهين والتسقيط الاجتماعي.
وكما يوضح القرآن الكريم:
(وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) {الأنفال/46}
فالتنازع والصراع سلوك سيء ذو نتائج سلبية مدمرة وخطيرة تؤدي الى الخسارة العامة ليطال الفشل جميع أطراف النزاع.
والتزاوج بين هذين المبدأين مبدأ التواصي بالحق ومبدأ عدم التنازع يكشف عن زيف مفهوم مغلوط لدى البعض وهو ان النقد لأداء يطال الشأن العام لشخصية ما يساوي هتك حرمتها او اسقاطها او التعدي عليها او محاربتها او التطاول عليها ونحو ذلك من توصيفات تنحرف عن مفهوم النقد البناء او (التواصي بالحق) فالتواصي بالحق مبدأ قرآني لم يستثن أحدا (ارسالا واستقبالا) اذا جاز مثل هذا التعبير.
والهدف منه البناء وليس الهدم فمن الخطأ جدا تفسير النقد والتواصي بالحق بانه استهداف شخصي وهذا النحو من التفسير نتيجة خلطه بين المبدئين
يطالب اما بالغاء مبدأ التواصي بالحق او باستثناء بعض الاشخاص منه ليقتصر دوره على تقديم الوصية بالحق دون قبولها لنفسه فهو يرسل ولا يستقبل.
في حين انه مبدأ قرآني عام لا يستثنى منه أحد.
وهناك من يتبرع بشرط آخر يقيد به اطلاق القرآن الكريم ويخصص عمومه،
فترى من ينبري لمن ينتقد او ينصح طالبا منه التوفر على شرط يسبق تقديم أي انتقاد.
الا وهو تقديم البديل اذا انتقدت الاداء السياسي لفلان من الناس فيجب ان يكون لك برنامج متكامل وخال من العيب والنقص،
قبل ان يحق لك ممارسة النقد.
تماما كمن يحاول ان يستثني بعض الشخصيات ببعض الذرائع من مبدأ النقد والتواصي بالحق.
أقول لمثل هؤلاء:-
اولا- مثل هذه الشروط لم يشرط منها رب العزة والجلال شيئا فالتواصي بالحق والنقد لا يتطلب تقديم برنامج بديل ولا يستثني أحدا
وقد جاء عن أمير المؤمنين (ع) قوله: وليس امرؤ وإن عظمت في الحق منزلته، وتقدمت في الدين فضيلته بفوق أن يُعَاوَن على ما حمَّله الله من حقه"
أجل قد يستثنى المعصوم (ع) فهو يوصي بالحق ولا يوصى به لعصمته رغم ورود عدة روايات تدعو لذلك مثل ما روي عن الامام علي (ع):
(فلا تكفوا عن مقاله بحق أو مشورة بعدل فانى لست في نفسي بفوق أن اخطئ)
فلعل التواصي بالحق لا يستثنى منه حتى المعصوم سلام الله عليه لغرض تعليم الآخرين وتدريبهم على النقد وحتى يبين الامام (ع) الحق ويصحر به،
فلا يبقى سؤال في نفس أحد بدون جواب وذلك لا ينافي العصمة وأيا كان الحال هذه النقطة ليست محل بحث وتحليل في هذا المقال.
وثانيا- النقد في جزئية معينة يعني محاولة اكتشاف ثغرة ليس بالضرورة يملأ فراغها نفس المنتقد فربما يملأها شخص آخر.
فهذا النقد او ذاك يمثل لبنة في عملية البناء الطويلة الشامخة والتي لا تقوم على عاتق بناء شخص أوحدي.
وثالثا- مبدأ النقد والتواصي بالحق يستبطن الاعتراف بالمشاركة في البناء المشترك وانه لا أحد يملك حصرية البناء والوصاية.
ورابعا- الناقد الذي ينتقد ثم يقدم لك حلولا بديلة معلبة وجاهزة على أنها وحدها سبيل الخلاص يخرجك من دائرة وصاية ليدخلك في أخرى
فهو يستثني نفسه من قبول مبدأ التواصي بالحق أي انه ينتقد ولكن لا ينتقده أحد.
فهذا ينافر مبدأ التواصي بالحق الذي يعني فيما يعني الشراكة المجتمعية في البناء على أصعدة مختلفة منها الصعيد السياسي.
فالمطلوب قدر كبير يساهم في وضع محتوياته وطبخها كل من له يد وكل من له وجهة نظر حق يوصي بها.
هذا ويعضد مبدأ التواصي بالحق بمبدأ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وبمبدأ الشورى الوارد في القرآن الكريم والاحاديث الشريفة فقد طفحت بالحث على الشورى والمشاورة حتى بلغت حد التواتر.
قال تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) الشورى/ 38. وقال تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) {آل عمران/159}
وروي عن الامام أمير المؤمنين علي (ع) انه قال في وصيته لمحمد بن الحنفية: (اضْمُمْ آرَاءَ الرِّجَالِ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ) وسائل الشيعة ج12، ص 46.
فما احلى النقد وتقبل النقد بصدر رحب مع الابقاء على أواصر الاخوة والمحبة الايمانية فاختلاف الرأي لا يفسد في الود قضية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق