فكرة قيام لجنة شيعية أو سنية أو مشتركة بينهما لتوحيد الهلال والمناسبات لا تروق لي ولي عليها تحفظ فلست أغالي إذا ما قلت:
فكرة توحيد المسلمين بداية شهر رمضان وعيد الفطر والأضحى ربما تنطلق من الفكر الشمولي الذي ابتليت به هذه الأمة ففي السياسة ترى اعتماد آلية الإجماع في المؤسسات العربية والإقليمية لاتخاذ القرار على مستوى الدول المشاركة في تلك المؤسسات.
وفي داخل الدول المتأخرة لا ترى سوى دعاوى الإجماع أو إذا حصل تواضع فنسبة الذين صوتوا للرئيس معروفة (تسعة وتسعين فاصلة تسعة).
وهكذا معارضة سياسات الحكومة (الرشيدة) شق لعصا الطاعة وخروج عن الجماعة فلله الحمد والمنة لا معارضة لحكومات دول العالم الثالث فالكل متفق مع وجهة
النظر الرسمية وكل شيء على ما يرام وعلى كل مواطن ان يقدم فروض الطاعة والولاء للحكومة وان يصبح شاكرا لها ويمسي حامدا على جزيل النعم التي تسديها له.
اجل هذه هي الوحدة وهكذا يراد لها ان تكون.
ومن ضمن افرازات مثل هذه الثقافة فكرة توحيد تحديد بداية شهر رمضان أو العيد فيجب ان تكون رسمية وعلى الجميع ان يسير في الركب ولا يغرد خارج السرب.
ولكن هل هذه الثقافة نابعة من الإسلام وتعاليمه وسيرة السلف الصالح؟
لا أجدني مجافيا للحقيقة إذا قلت بأنها غريبة على الإسلام وعلى منطق العقل وان ثقافة الإسلام تؤسس للتعددية في هذا المجال كأحد أوجه التعدد الفكري الذي نشاهد دلائله وشواهده في تعاليم الإسلام.
وفي هذا الصدد أود ان أؤصل التعددية إسلاميا في فكرة الهلال وبدايات الأشهر الهلالية ونهاياتها من خلال الشواهد التالية:-
1- أوكل النبي الأكرم (ص) تحديد الصوم والإفطار بآلية رؤية الهلال بحسب الشخص المكلف بالصوم وليس بحسب هيئة دينية أو حكومة سياسية وهذه الآلية تنتج اختلاف المكلفين في إثبات وتحديد الهلال وبالتالي بداية الشهر والعيد في حين تتوفر آلية أخرى يعلم بها المشرع تبارك وتعالى ولكنه تركها ولم يعمل بها فلم يسن آلية تنتج يوما محددا عند جميع المسلمين بداية الشهر ونهايته بحيث لا تكون قابلة للاختلاف كما هو الحال في تحديد الشهور الشمسية بداية ونهاية فهي دقيقة لا مجال فيها للاختلاف نهائيا كما يترائى.
والشهور الهلالية يمكن ان تأخذ نفس منحى الدقة فيما لو وضعت آلية غير قابلة للاختلاف على سبيل المثال ان يكون كل شهر فردي ثلاثين يوما وكل شهر زوجي تسعة وعشرين يوما أو العكس هذه الآلية لو اقرها المشرع تبارك وتعالى لما كانت تنتج سوى اتفاق جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها على الشهور ومناسباتها.
ومن المؤكد الذي لا ريب فيه ولا شك يعتريه أن تأسيس قاعدة موحدة للاتفاق لم يكن خافيا على المشرع تبارك وتعالى فهو علام الغيوب وعالم السر والنجوى.
فلماذا شرع بدلا عن ذلك قاعدة الرؤية البصرية (صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته) مع العلم بان هذه الآلية واضحة في إنتاج الاختلاف إذ لا يتفق الناس على الرؤية إثباتا ونفيا مضافا إلى الاختلاف الفقهي المتشعب في وسائل إثبات بدايات الشهور القمرية هذا الاختلاف ناشئ هو الآخر من الآلية التي وضعها الإسلام في رسم طرق الاجتهاد وخلق عوامل الاختلاف في نتائج الاستنباط وبالتالي لا يمكن إرجاع الاختلاف إلا لمن أسس أسبابه وخلق أرضيته وليس ذلك إلا المشرع تبارك وتعالى.
فعلى سبيل المثال هناك اختلاف بين المسلمين في وسائل إثبات رؤية الهلال فالفقيه المعتمد والقاضي لدى الدولة العباسية أبو يوسف ابرز تلامذة أبي حنيفة لا يقبل الشهادة برؤية الهلال في حال صفاء الجو إلا من جماعة يحصل للقاضي العلم بشهادتهم وقدر عددهم بعدد القسامة خمسين رجلا.
وفي المقابل يرى ابن حنبل وأتباعه ثبوت هلال شهر رمضان بشاهد واحد وهلال سائر الشهور بشاهدين حتى في حال صفاء السماء وعدم ادعاء رؤية الهلال إلا من شاهد واحد بالنسبة لهلال شهر رمضان أو شاهدين لهلال غيره من الشهور.
فإذا كانت السماء صافية وشهد شاهد برؤية الهلال فان ابن حنبل وأتباعه يثبتون الرؤية وبداية الشهر بينما لو شهد أربعون رجلا في نفس الظروف فان قاضي الدولة العباسية أبا يوسف لا يأخذ بهذه الشهادات ولا يثبت عنده الهلال.
وعند الشيعة الإمامية اختلاف فقهي في آلية حكم الحاكم الشرعي لإثبات الهلال وبداية الشهر هل يثبت بها الهلال أم لا مما يعكس اختلافا في النتائج حسب اختلاف النظرة الفقهية لهذه الآلية اجتهادا وتقليدا.
وهناك اختلاف آخر في آلية التطويق هل هي دليل على انه لليلة الثانية أم لا؟
مضافا إلى الاختلاف في إثبات واقع الرؤية نفسها كتطبيق بغض النظر عن النظرية وما يحف بها من اختلاف بشأن قيود الرؤية فمسؤولية الاختلاف هي مسؤولية الآلية ومسؤولية الآلية مسؤولية مشرعها تبارك وتعالى.
2- عاش كثير من المسلمين على فكرة التعددية بحيث يعمل كل إنسان حسب قناعته بإثبات رؤية الهلال دون حساسية أو حزازة فقد روى ابن حزم في المحلى قصة طريفة وجعلها شاهدا على فتواه بتعددية الوقوف بعرفات حسب القناعة بإثبات رؤية الهلال فقد قال:
فان صح عنده بعلم أو بخبر صادق ان هذا هو اليوم التاسع إلا أن الناس لم يروه رؤية توجب أنها اليوم الثامن ففرض عليه الوقوف في اليوم الذي صح عنده أنه اليوم التاسع وإلا فحجه باطل لما ذكرنا.
روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عمر بن محمد قال: شهد نفر أنهم رأوا هلال ذي الحجة فذهب بهم سالم (وهو بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ويعد من كبار فقهاء المدينة) إلى ابن هشام (وهو إبراهيم بن هشام المخزومي) وهو أمير الحج (في عام 105هـ) فلم يقبلهم فوقف سالم بعرفة لوقت شهادتهم، ثم دفع فلما كان في يوم الثاني وقف مع الناس. المصدر المحلى لابن حزم الجزء 7، ص192.
فهذه القصة في العصر الأموي تدلل بوضوح على التعددية وقبول الاختلاف فلا تفرض وجهة نظر احد على آخر.
فالحاكم السياسي الأموي لم يقبل بالشهادة فوقف فقيه المدينة مع جماعته بحكم ثبوت الرؤية عنده بحسب الشهود بينما سائر الناس وقوفهم كان باليوم التالي ووقف معهم مجددا لمجرد الاجتماع مع الناس وليس للتعبد بالوقوف بعرفة.
3- لا يمكن لسكان الأرض ان يوحدوا احتفالاتهم في يوم مشترك بالحساب الشمسي رغم دقته فضلا عن الهلالي فرأس السنة مثلا يكون متقدما وسابقا في المناطق الشرقية كنيوزيلندا واستراليا واليابان.
بينما يتأخر في المناطق الغربية كالقارة الأمريكية والفارق بين استراليا مثلا والولايات المتحدة الأمريكية نحو ثمانية عشر ساعة فبينما يكون يوم السبت في استراليا مثلا يكون الجمعة في أمريكا فوحدة يوم رأس السنة بالاسم فقط إذ واقع الحال تعدد اليوم إذ لا يحتفلون في نفس الوقت ففي الحقيقة يتعدد رأس السنة بتعدد مشارق الأرض المختلفة من حيث الزمان فهذا التعدد الطبيعي آية جدير بالناس ان يقرؤها جيدا فليست هناك آلية عملية لتوحيد الناس في مناسباتهم واحتفالاتهم ربما حتى نتذوق الاختلاف ونستمرء التعدد ولا نستوحشه فالاختلاف والتعدد سنة الحياة.
4- إذا اتضح رجوع المسألة لآلية تحديد بدايات ونهايات الشهور القمرية والتي هي آلية شرعها الإسلام وبعد الفراغ عن أن الفقهاء ليس لهم صلاحية التشريع أو تغيير التشريع أو تبديله فالسؤال الحقيق بالطرح هو لماذا سنت آلية تنتج الاختلاف ولماذا قننت قاعدة تؤدي كمقدمة إلى نتائج معلومة سلفا؟
ولهذا السؤال بنظري جوابان احدهما يقيني والآخر مجرد أطروحة لا تحمل صفية اليقين:-
اما الجواب الاول فهو ان تشريع هذه الآلية ينطلق حتما من حكمة واقعية نشأ عنها هذا التشريع لوضوح انه تعالى حكيم لا يشرع شيئا يخالف موازين الحكمة قيد شعرة.
ولكن السؤال ما هي هذه الحكمة؟
فالجواب عليه هو الأطروحة الموعودة وباختصار أقول:
بما أن غالب الناس تفكر بطريقة العقل الجمعي كما يسميها علماء النفس بما أن لهذه الطريقة آثارا سلبية على التفكير الموضوعي وبالتالي الوقوع في الخطأ نتيجة إتباع الآخرين خصوصا مثل الآباء والشخصيات المؤثرة (الكارزمية).
لذلك يؤسس الإسلام لتشريعات كثيرة تهدف لكسر طريقة التفكير الأحادي وتحرره من التبعية وتجعله يقبل الاختلاف بروح متسامحة فهو يريد منا أن نقبل من يختلف مع قناعاتنا مهما كانت واضحة عندنا حتى لا نصاب بهوس الكراهية للآخر فهو أسلوب عملي لترويض النفوس وتعليمها على التكيف مع سنة الاختلاف.
قال تعالى:
(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) هود – 118.
فخلق الاختلاف في المشارق والمغارب فلا يتحد الناس في أوقات المناسبات كما صمم العقول بطريقة لا تتفق رؤاها ولا تتحد أفكارها.
فما أحرى بنا ان نقبل الاختلاف بروح منفتحة ولا تغلبنا العصبية ونار (الوحدة) على غرار نظام الحزب الواحد في مقابل نعيم التعدد الذي يرفل فيه سكان الدول المتقدمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق