الجمعة، 2 نوفمبر 2012

هل يجوز ترك التقليد رأسا لخبر (فللعوام ان يقلدوه)


هل يدل خبر (فللعوام ان يقلدوه) على جواز ترك التقليد؟

نص الخبر(فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه، مخالفا لهواه، مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه) لاحظ آخر المقال للاطلاع على المصدر.

قد تتخيل النظرة السطحية دلالة هذا الخبر على جواز ترك التقليد فلا يجب على العامي ان يتبع فقيها ويقلد مجتهدا فان الخبر نص على (فللعوام ان يقلدوه) ومن الجلي ان مفاده الجواز لا الوجوب فتكون النتيجة جواز ترك اتباع الفقهاء وعدم تعين الاخذ بأقوالهم.

فمن اين اتى الفقهاء بمقولة وجوب التقليد وتعين الرجوع للفقهاء؟

اليس هذا الخبر ردا عليهم وتفنيدا لقولهم؟

ج: رغم سخافة هذا النحو من الاستدلال وخوائه الا اننا سنتصدى لكشف زيفه وتعرية بطلانه ضمن طرح نقاط:

النقطة الاولى:- الايمان بالله سبحانه وتعالى وبانه كلف عباده بتكاليف الزامية كفعل الصلاة وترك شرب الخمر وغيرهما الكثير هذا الايمان يجعل في ربقة العبد مسؤولية امتثال تلك التكاليف وحيث ان الطريق لمعرفة اغلبها مسدود على العامي بقي له - بعد فرض كونه غير مجتهد- طريق الاحتياط او طريق التقليد للفقيه الجامع للشرائط اما الاحتياط فهو صعب الفهم نظريا في كثير من مسائله لأغلب العوام كما انه صعب التطبيق عمليا وان كانت ميزته الامتثال اليقيني والعلم بالخروج من عهدة المسؤولية.

لكن مسلك الاحتياط لا يمكن السير فيه بلا تقليد نظرا للخلاف في جواز سلوكه فلا بد من الاتكاء على فتوى من يجوزه قبل العمل به وهكذا نعود الى نقطة البداية وهي ضرورة التقليد للعامي وانه لا سبيل له سواه اما بالاعتماد على التقليد في كل المسائل او اغلبها واما بالاعتماد على التقليد في مسألة جواز الاحتياط ثم الانطلاق في جادة الاحتياط.

النقطة الثانية: الجواز له معنيان-: الف- الجواز بمعناه الاخص وهو تساوي كفتي الفعل والترك فيكون الفعل مباحا جائزا بنفس درجة جواز الترك واباحته ومثاله المشي او شرب الماء اذ يساوي الفعل الترك مما يعني ترك الخيار للإنسان ليختار جانب الفعل او الترك دون ان يوجه دينيا لا للفعل ولا للترك ، هذا هو معنى الاباحة بالمعنى الاخص او الجواز بالمعنى الخاص.

باء- الجواز بمعناه الاعم وهو عدم الالزام وينضم تحته 1- المستحب 2- والمكروه اذ يجوز فعلهما بمعنى عدم الالزام بتركهما كما يجوز فعلهما بمعنى انتفاء الالزام بتركهما ، كما ينضم تحته 3- فعل الواجب اي ان فعل الواجب مسموع وليس ممنوعا فلا الزام بترك الواجب ولكن لا ينضم تحته ترك الواجب لوجود الالزام بعدم الترك فترك الواجب غير مسموح.

وينضم تحته ايضا 4- ترك الحرام فنقول ترك الحرام جائز بمعنى لا الزام بفعله وان ترك الحرام مسموح ولا اثم فيه ولكن لا ينضم تحته فعل الحرام فهو غير مسموح.

ومن الواضح دخول 5- المباح بمعناه الاخص او قل الجواز بمعناه الاخص في الجواز بمعناه الاعم وهكذا وجدنا خمسة مصاديق للجواز بمعناه الاعم.

النقطة الثاثة: ما هو معنى التقليد وما هو معنى جوازه؟

 ج: التقليد يعني حجية فتوى الفقيه لتكون مبرأة للذمة ومفرغة من المسؤولية حال العمل بها فان وافقت الفتوى للواقع برئت الذمة منه ومثال ذلك ان يفتي الفقيه بوجوب (سين) فيفعله المكلف وكان هذا ال(سين) واجبا في الواقع وحكم الله سبحانه وتعالى وفي هذا الحال امتثل المكلف وجوب (سين) اذ فعله واتى به ولم يتورط في مخالفة المولى تبارك وتعالى.

ولكنه لو لم يتبع الفتوى وخالف التكليف الواقعي بوجوب (سين) فانه لا عذر له في ذلك وحجة الله على عبده هي فتوى الفقيه بوجوب ذلك الشيء ويسمى ذلك بالمنجزية.

اما لو فرضنا ان الفقيه افتى بعدم وجوب (سين) وكان واجبا في الواقع فترك العبد امتثاله تبعا للفقيه واعتمادا على قوله فانه في هذه الحالة وان خالف التكليف الواقعي الا ان عذره عند الله سبحانه وتعالى هو فتوى الفقيه وقول المجتهد فتكون للفتوى معذرية في حال مخالفة الواقع وهكذا نخلص الى ان حجية فتوى الفقيه معناها جناحي المنجزية والعذرية معا.

وهكذا نخلص الى ان جواز التقليد انما يعني جانب احتجاج المولى تبارك وتعالى على عبده بالفتوى وجانب احتجاج العبد على مولاه سبحانه بفتوى الفقيه ، وليس الجواز بمعناه الخاص الذي يساوي فيه الفعل والترك نظير شرب الماء الذي يباح شربه وتركه فيتساوى الفعل والترك في الجواز والاباحة.

فقد تبين لك ان التعبير بجواز التقليد انما يراد به الجواز بمعناه الاعم اي انه غير ممنوع ولا يعني جواز تركه فهو نظير جواز فعل الصلاة وعادة ما تأتي مثل هذه الصيغة لدفع توهم الحرمة كمن يسأل هل تجوز الصلاة لمن لا يجد الماء؟ فيأتيه الجواب نعم تجوز له الصلاة والمقصود من الجواب دفع توهم حرمة الصلاة وليس المقصود الجواز الخاص المساوي لجواز تركها.

النقطة الرابعة:

خبر (فللعوام ان يقلدوه) ليس هو المعتمد لمشروعية التقليد وصحته ، وانما يذكر للتأييد وتقوية المطلب فاصل شرعية التقليد تنطلق من سيرة العقلاء برجوع العالم للجاهل وهذه السيرة حيث لم يردع عنها الشارع المقدس صارت سنة تقريرية حيث ان السنة قول المعصوم عليه السلام وفعله وتقريره.

كما يستدل على شرعية التقليد بأدلة أخرى يراجعها من يشاء في مباحث الاجتهاد والتقليد.

اما خبر (فللعوام ان يقلدوه) فبرغم انه للتايد الا انه من ناحية الدلالة لا يمكن ان يكون دالا على جواز التقليد بالمعنى الخاص الذي يسمح بتركه وذلك.

اولا:- لما بيناه من لزوم الخروج من عهدة التكاليف الالهية وذلك لا يكون بترك التقليد والاجتهاد والاحتياط فترك هذه الطرق يساوي التهاون في امر الشريعة وعدم المبالاة بالأوامر والنواهي الالهية فهذا المعنى الواضح البطلان لا يمكن قبوله من حديث صحيح السند فكيف بهذا الخبر.

وثانيا:- الخبر وارد في سياق ذم عوام اليهود بتقليدهم علمائهم رغم علمهم بانحرافهم السلوكي كالكذب الصراح وان هذا النحو من التقليد للفسقة كما هو مذموم بالنسبة لليهود فهو مذموم بالنسبة للشيعة فيما لو اتبعوا فقهاء الضلال وعلماء الانحراف والفسقة من اهل العلم.

وفرق الخبر بين هذا النحو من التقليد وبين تقليد الفقهاء العدول الحافظين لدينهم المخالفين لهواهم فمنع الاول وجوز الثاني ومن الوضوح بمكان ان هذا السياق لا يفيد سوى الاباحة بمعناها الاعم او قل الجواز بالمعنى الاعم لدفع توهم حرمة مطلق التقليد ببيان الفرق وان احدهما جائز والآخر محرم ولذلك فهم الاعلام والمحققون من هذا الخبر وجوب التقليد لا جوازه.

وفي الختام ننقل جزءا كبيرا من خبر التفسير المنسوب للإمام العسكري عليه السلام فهو طويل نكتفي بنقل ما يوضح سياقه وهو كالتالي:

قال الامام عليه السلام: [ثم] قال الله عز وجل: يا محمد ومن هؤلاء اليهود(اميون) لا يقرؤون [الكتاب] ولا يكتبون، كالأمي منسوب إلى امه أي هو كما خرج من بطن امه لا يقرأ ولا يكتب(لا يعلمون الكتاب) المنزل من السماء ولا المكذب به، ولا يميزون بينهما(إلا أماني) أي إلا أن يقرأ عليهم ويقال لهم: [إن] هذا كتاب الله وكلامه، لا يعرفون إن قرئ من الكتاب خلاف ما فيه (وإن هم إلا يظنون)، أي ما يقول لهم رؤساؤهم من تكذيب محمد صلى الله عليه وآله في نبوته، وإمامة علي عليه السلام سيد عترته، وهم يقلدونهم مع أنه محرم عليهم تقليدهم.

قال: فقال رجل للصادق عليه السلام: فاذا كان هؤلاء العوام من اليهود لا يعرفون الكتاب إلا بما يسمعونه من علمائهم لا سبيل لهم إلى غيره، فكيف ذمهم بتقليدهم والقبول من علمائهم؟ وهل عوام اليهود إلا كعوامنا يقلدون علماء هم؟ فان لم يجز لأولئك القبول من علمائهم، لم يجز لهؤلاء القبول من علمائهم.

فقال عليه السلام: بين عوامنا وعلمائنا وبين عوام اليهود وعلمائهم فرق من جهة وتسوية من جهة، أما من حيث أنهم استووا، فان الله قد ذم عوامنا بتقليدهم علماء هم كما [قد] ذم عوامهم. وأما من حيث أنهم افترقوا فلا.

قال: بين لي ذلك يا بن رسول الله صلى الله عليه وآله! قال عليه السلام: إن عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماء هم بالكذب الصراح، وبأكل الحرام وبالرشاء، وبتغيير الاحكام عن واجبها بالشفاعات والعنايات والمصانعات.

وعرفوهم بالتعصب الشديد الذي يفارقون به أديانهم، وأنهم إذا تعصبوا أزالوا حقوق من تعصبوا عليه، وأعطوا ما لا يستحقه من تعصبوا له من أموال غيرهم وظلموهم من أجلهم. وعرفوهم بأنهم يقارفون المحرمات، واضطروا بمعارف قلوبهم إلى أن من فعل ما يفعلونه فهو فاسق، لا يجوز أن يصدق على الله، ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله، فلذلك ذمهم [الله] لما قلدوا من قد عرفوا، ومن قد علموا أنه لا يجوز قبول خبره، ولا تصديقه في حكايته، ولا العمل بما يؤديه إليهم عمن لم يشاهدوه، ووجب عليهم النظر بأنفسهم في أمر رسول الله صلى الله عليه وآله إذ كانت دلائله أوضح من أن تخفى، وأشهر من أن لا تظهر لهم.

وكذلك عوام امتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر، والعصبية الشديدة والتكالب على حطام الدنيا وحرامها، وإهلاك من يتعصبون عليه إن كان لإصلاح أمره مستحقا، وبالترفق بالبر والاحسان على من تعصبوا له، وإن كان للإذلال والاهانة مستحقا.

فمن قلد من عوامنا [من] مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذين ذمهم الله تعالى بالتقليد لفسقة فقهائهم.

فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه، مخالفا لهواه، مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه.

وذلك لا يكون إلا [في] بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم، فان من ركب من القبائح والفواحش مراكب فسقة فقهاء العامة فلا تقبلوا منهم عنا شيئا، ولا كرامة لهم، وإنما كثر التخليط فيما يتحمل عنا أهل البيت لذلك، لان الفسقة يتحملون عنا، فهم يحرفونه بأسره لجهلهم، ويضعون الاشياء على غير [مواضعها و] وجوهها لقلة معرفتهم وآخرين يتعمدون الكذب علينا ليجروا من عرض الدنيا ما هو زادهم إلى نار جهنم.

التفسير المنسوب للإمام ابي محمد الحسن بن علي العسكري عليهما السلام.
علوي الموسوي البلادي البحراني

ليست هناك تعليقات: