اشراقات دينية للدفاع عن القرآن الكريم
( اشراقة القرآن وسرعة الضوء)
قال تعالى:
إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ {الصافات/6} وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ {الصافات/7} لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ {الصافات/8} دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ {الصافات/9} إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ {الصافات/10}.
قال السيد عبد الله شبر رحمه الله تعالى:
وقال الجن ( وأنا لمسنا السماء ) مسسناها مستعار للطلب أي طلبنا بلوغها لاستراق السمع ( فوجدناها ملئت حرسا شديدا ) من الملائكة ( وشهبا ) جمع شهاب وهو كوكب الرجم وهذا حين بعث النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ( وأنا كنا ) قبل مبعثه ( نقعد منها مقاعد ) خالية من الحرس والشهب ( للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا ) قد رصد ليرجم به ( وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض ) يمنع الاستراق ( أم أراد بهم ربهم رشدا ) خيرا.
المصدر تفسير شبر - السيد عبد الله شبر -ص 535.
وقد اشكل على هذه الاية الكريمة بهذا الاشكال:-
الشبهة
يرسم القرآن صورة لتتبع الشهاب للجن المسترق للسمع دعنا نتأملها:
وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا { 8 } وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا { 9 } الجن و نفس المعني يتكرر إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب { 6 } وحفظا من كل شيطان مارد { 7 } لا يسمعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون من كل جانب { 8 } دحورا ولهم عذاب واصب { 9 } إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب { 10 }الصافات
الصورة الآن كما هو واضح من الاية ان الجن كانت تصل الي السماء و تلمسها و تسمع الاخبار ثم تعود الي البشر لتخبرهم بالمستقبل و عند بعثة الرسول تحول الموضوع بان الجني لن يستطيع لانه يتبعه شهاب ثاقب وتأمل اللفظ ((يتبعه ))بدقة هنا اتجاه الحركة تتبع اي خلف الجنى نستنتج من هذا ان الجني أبطأ من الشهاب سرعة و الا كان الشهاب لن يصل اليه ليحرقه او يخبله سعة الكون المادي من نجوم و مجموعات شمسية و مجرات و سدم التي تم رصدها بأجهزة حوالي مليار سنة ضوئية من مرصد بالومار بكاليفورنيا اينشتين جعل نصف القطر 35 مليار سنة ضوئية اي ان السماء الدنيا تبعد عنا 35 مليار سنة حسب المعادلات و بالنظر اليقيني مليار سنة دعنا نعتبر ان اينشتين كلامه نظري لا قيمة له ودعنا نعتبر اننا خدعنا في الاجهزة بنسبة خطأ 100 مليون مرة وهذا طبعا احتمال لا معني له اذا الكون ابعاده بدلا من مليار سنة تصبح 10 سنوات ضوئية فقط وهذا افتراض سخيف جداو دعنا نعتبر ان الشهاب يتحرك بسرعة معروفة قصوي ا/10 من سرعة الضوء اي 30 الف كيلومتر في الثانية وهذه سرعة خيالية للشهاب و دعنا نعتبر ان الجن المضروب سرعته تساوي سرعة الشهاب كما بينا فلا يمكن ان تكون اكبر والا كان تتبع الشهاب له لا معنى له اذا ليصل الجن الي السماء ليسترق السمع يحتاج الي 100 سنة و ليعود يحتاج الي مئة سنة اخري اي 200 سنة يكون الخبر قديم جدا و كما راينا ان الاحتمالات الموضوعة بها الكثير من التساهل فكيف كان يسترق الجن السمع اما ان القران خطأ واما السماء قريبة جدا لكي تكون رحلة الذهاب و الاياب مقبولة و دعنا نجعل شهر ذهاب و شهر اياب ليكون الموضوع مقبولا مع انه خبر سيكون قديم جدا و لكن دعنا نحسب اين تكون السماء 3 ايام ضوئية علي اساس ان السرعة 1/10 من سرعة الضوء وهي مبالغ بها اذا هل توجد سماء قابلة للطي علي بعد ثلاثة ايام ضوئية لم يستطع العلماء رؤيتها.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الجواب
للانصاف هذه الاثارة والاشكالية تتصف بدقة وملاحظة مهمة تستدعي وقفة للدراسة وللجواب عليها أقول:
هذه الاشكالية مبنية على ثلاث مقدمات مطوية تقدر صحتها حتى يتوجه الاعتراض وهي:-
المقدمة الاولى
ان منطقة (الانباء واستراق السمع) تقع في السماء الاولى وهي في موضع أبعد من الغلاف الجوي بمعنى ان طرف الغلاف الجوي ليس جزءا من السماء الاولى.
هذه المقدمة غير ثابتة
ولكن ذلك غير لازم فليس هناك مانع ان يكون طرف الغلاف الجوي ونهايته (10000 الى 30000 كيلو متر) عبارة عن بداية السماء الاولى ومنطقة الانباء ومصدر الاخبار تقع بطرف الغلاف الجوي بافتراض ان السماء الاولى ذات سمك عريض اي ممتدة الى الغلاف الجوي اذ لا ضرورة لان تكون بداية السماء بعد كل تلك المسافات المذكورة في الاشكالية (الخاطرة) وهذه الفرضية كافية في تهاوي الاشكالية وانهيارها تماما.
المقدمة الثانية
وتنبني الاشكالية على مقدمة اخرى وهي ان المعجزة تعني خرق العادة وليس متاحا لها مخالفة قوانين العقل فالمعجزة لا تسمح باجتماع النقيضين او ارتفاعهما ولا تصل امكانيات المعجزة الى ايجاد المعلول بدون علة حيث ان هذا مستحيل.
تقول النظرية النسبية لانشتاين بان الجسم يستحيل عليه ان يصل لسرعة الضوء فضلا عن ان يتجاوزها وسرعة الضوء حوالي ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية الواحدة (30000).
وعلى هذا الاساس لا يمكن للشهب ان تصل سرعتها للضوء او تكون اسرع منها فذلك مستحيل بمنطق الفيزياء.
قال الشيخ جعفر السبحاني حفظه الله تعالى:
المشهورة في تعريف المعجزة أنّها: «أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدي، مع عدم المعارضة»(حاشية: شرح التجريد، لنظام الدين القوشجي، ص 465)).....
وإليك توضيح هذا التعريف.
1 ـ الإعجاز خارق للعادة وليس خارقاً للعقل
إنّ هناك من الأمور ما تعدّ خارقة للعقل، أي مضادة لحكم العقل الباتّ، كاجتماع النقيضين وارتفاعهما، ووجود المعلول بلا علّة، وانقسام الثلاثة إلى عددين صحيحين... فإنّ هذه أمور يحكم العقل باستحالتها وامتناع تحققها.
انتهى كلامه زيد مقامه المصدر ( محاضرات في الالهيات ص 258).
أقول: هناك فكرة أخرى ترى ان المعجزة يمكنها دخول المنطقة المحضورة عقلا فليس هناك شيء مستحيل بالنسبة للخالق القادر على كل شيء، ولكن الصحيح ان المعجزة لا تطال المنطقة المستحيلة فالاعجاز يختص بدائرة الممكنات كما القدرة الالهية لا تتناول المحال غير ان النقطة الجديرة بالاهتمام هي انه بالامكان التوفيق بين فكرة انكماش المعجزة عن المستحيلات وبين فكرة انطلاق الجن بسرعة أعلى من الضوء بعلة اخرى لا نعلمها او قل بقانون فيزيائي خاص فلسنا ندعي ولادة المعلول بدون علة ولكننا ندعي امكانية ان يغير الخالق تبارك وتعالى القانون الفيزيائي ضمن معادلة خاصة وظرف خاص لصالح هدف ضرب الجن الذين تسول لهم انفسهم استراق السمع.
غير اننا لا ندعي حتمية هذه الفرضية وانما ندعي ان مجرد احتمالها وامكانيتها تضرب الاشكالية من اساسها وتهدم بنيانها.
المقدمة الثالثة
والمقدمة الثالثة التي تنبني عليها الاشكالية هي ان الايات القرآنية تقصد بيان المعنى الحسي للسماء والشهب وعلى ذلك يتوجه الاعتراض والاشكال.
غير ان هذه المقدمة غير ثابتة وليست متيقنة فقد فسرها جملة من المفسرين بمعنى رمزي واعتبروها كناية عن امر معنوي من باب ضرب الامثال ومفاده مثل افتراض ان تكون السماء كناية عن عالم ملكوتي وان الشهب عبارة عن نور الملكوت المانع من استراق السمع ومعرفة الاخبار والانباء.
ومثل هذا الطرح مال له العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان وتبناه الشيخ ناصر مكارم الشيرازي كما نقله عن مفسرين اخرين مثل الطنطاوي في تفسير الجواهر.
ولكني في الوقت الذي لا استطيع فيه الجزم بنفي هذا التفسير المعنوي، لا ارى ضرورة المصير له فان ذلك انما يكون حتميا اذا ثبتت استحالة الحمل على المعنى الحسي.
غير ان هذه الاستحالة غير ثابتة لما اوضحناه في بطلان كل من المقدمتين الاولى والثانية.
علاوة على اضافة هذا التوضيح وهو ان اختراق البشر للغلاف الجوي بل وما هو ابعد منه بمسافات طويلة لا يعني ان المنطقة التي يسترق منها السمع وتؤخذ منها الاخبار ليست موجودة هناك فبالامكان افتراض انها قائمة هناك، لكنها ذات شفرة لا يستطيع البشر قرائتها فما اكثر اسرار الكون فكم من الاشياء المحيطة بنا لم يتمكن البشر من معرفتها الا بعد قرون طويلة من عمر البشرية والان في ظل التطور التكنولوجي لا يمكنه ان يحس بالاشعة تحت الحمراء او الاشعة فوق البنفسجية أوموجات الراديو والهاتف والتلفزيون والموجة فوق الصوتية وغيرها الا بواسطة اجهزة حديثة قادرة على قراءة تلك الموجات وفك تلك الشفرات وبيانها للحس بدل خفائها عنه فهي أشياء مخفية عن الحواس المجردة عن القارئ الخاص مثل جهاز السونار وجهاز الراديو.
فالنتيجة انه بالامكان وجود تلك الاشياء التي لا تكشفها حواس الانسان المجردة ولا آلاته الحديثة فهي ذات شفرة يستطيع مثل الجن قرائتها بسونار خاص او قل جهاز خاص لا نملكه معاشر البشر.
ومتى صدقت هذه الامكانية فلا ضرورة لفرضية معنوية السماء والشهب غير ان مجرد احتمال هذه الفرضية يسقط الاشكالية وينسفها من قواعدها.
لكنها غير ضرورية لوجود الفسحة من خلال اكثر من فرضية لابطال الاعتراض كما عرفت والله العالم.
وقد اتضح لك عزيزي القارئ بما لا مزيد عليه عدم ثبوت بطلان حسية الاشياء المشار اليها لامكانية عدم قدرة حواس الانسان على ملاحظتها.
اجل فعدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود.
ومع ذلك في النهاية لا املك ان انفي التفسير المعنوي كما لا اثبته لعدم الضرورة له والله العالم.
وفي الختام - تتميما للفائدة - أود نقل ما ذكره سماحة الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في كتابه المثل في تفسير كتاب الله المنزل - الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - ج 8 – ص 42 – 48 حيث يقول:
يصرّ جمع لا بأس به من المفسّرين (وخصوصاً القدماء منهم) على الوقوف عند المعنى الظاهري لهذه الآيات.
فالسماء هي هذه السماء، والشهاب هو ما نراه ونسميه شهاباً (أي الكرات الصغيرة التي تسبح في الفضاء، وتخترق بين الحين والآخر جاذبية الأرض فتنطلق نحوها بسرعة فتحترق نتيجةً لا حتكاكها بالهواء المسبب لزيادة حرارتها).
والشيطان هو ذلك الموجود الخبيث المتمرد الذي يحاول أن يخترق أعماق السماوات ليطلع على أخبار ذلك العالم ليوصل تلك الأخبار إِلى أوليائه الأشرار على الأرض من خلال استراقه السمع، ولكنّه يُمنع من الوصول إِلى هدفه برميه بالشهب.
(حاشية: ذكر هذا التّفسير الفخر الرازي في تفسيره الكبير، وكذلك الآلوسي في (روح المعاني) بعد طرح الإشكالات المختلفة في الموضوع اعتماداً على علم الهيئة والطبقات الفلكية القديم وأمثال ذلك. وأكثر العلماء فيه البيان من خلال الإِجابة على تلك التساؤلات، ولا ضرورة لذكرها لما وصل إليه علم الفلك في يومنا.)
3 ـ وذهب جمع من المفسّرين مثل العلاّمة الطّباطبائي في (تفسير الميزان) والطنطاوي في تفسير (الجواهر) إِلى حمل هذه الآيات على التشبيه والكناية وضرب الأمثال، أو ما يسمّى بـ (البيان الرمزي) ثمّ شرحوا ذلك بصور عدّة:
ألف: نقرأ في تفسير الميزان: (أورد المفسّرون أنواعاً من التوجيه لتصوير استراق السمع من الشياطين ورميهم بالشهب، وهي مبينة على ما سبق إِلى الذهن من ظاهر الآيات والأخبار، إِنّ هناك أفلاكاً محيطة بالأرض تسكنها جماعات من الملائكة ولها أبواب لا يلج فيها شيء إِلاّ منها، وإِنّ في السماء الأُولى جمعاً من الملائكة بأيديهم الشهب يرصدون المسترقين للسمع من الشياطين فيقذفونهم بالشهب.
وقد اتّضح اليوم اتضاح عيان بطلان هذه الآراء.
ويحتمل ـ واللّه العالم ـ أنّ هذه البيانات في كلامه تعالى من قبيل الأمثال المضروبة تصور بها الحقائق الخارجة عن الحس في صورة المحسوس لتقريبها من الحس، وهو القائل عزَّ وجلّ في سورة العنكبوت (43): (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إِلاّ العالمون)، وهو كثير في كلامه تعالى ومنه العرش والكرسي واللوح والكتاب.
وعلى هذا يكون المراد من السماء التي تسكنها الملائكة عالماً ملكوتياً ذا أفق أعلى، نسبته إِلى هذا العالم المشهود نسبة السماء المحسوسة بأجرامها إِلى الأرض، والمراد لاقتراب الشياطين من السماء واستراقهم السمع وقذفهم بالشهب اقترابهم من عالم الملائكة للإِطلاع على أسرار الخلقة والحوادث المستقبلة ورميهم بما لا يطيقونه من نور الملكوت.
(حاشية: تفسير الميزان، ج17، ص 124 (في تفسير الآيات من سورة الصافات).
ب ـ والطنطاوي في تفسيره المعروف، هكذا يرى: (إِنّ العلماء المحتالين
المرائين الذين يتبعهم عوام الناس دون أن تكون لهم الأهلية لأن يطلعوا على عجائب السماوات وبدائع العالم العلوي وأجرامه غير المحدودة، وما يحكمها من نظم وحساب دقيق، فإِنّ اللّه تعالى يمنع عنهم هذا العلم ويجعل هذه السماء المليئة بالنجوم الوضاءة بكل أسرارها في اختيار مَنْ له عقل ونباهة وإِخلاص وإِيمان، ومن الطبيعي أن يمنع هذا الصنف من العلماء من النفوذ في أسرار هذه السماء، فكل شيطان يطرد عن الحضرة الإِلهية سواء كان من البشر أو من غيرهم، وليس له حق الوصول إلى هذه الحقائق، ومتى ما اقترب منها طرد عنها، فيمكن أن يعيش هكذا أشخاص سنوات كثيرة ثمّ يموتون ولكنّهم لا يدركون هذه الأسرار أبداً، لهم أبصار ينظرون بها ولكن لا تستطيع رؤية هذه الحقائق، أليس العلم لا يناله إِلاّ عشاقه ولا يدرك جماله ولا ينظر إِليه إِلاّ عرفاؤه(حاشية: تفسير الجواهر، ج8، ص11.)؟!
ويقول في مكان آخر: ما المانع أن تكون هذه التعبيرات كناية، فيكون المنع الحسي رمزاً للمنع العقلي، والكناية من أجمل أنواع البلاغة، ألاّ ترى أن كثيراً من الناس حولك محبوسون في هذه الأرض، غائبةٌ أبصارهم، لا يسمعون إِلى الملأ الأعلى ولا يفهمون رموز هذه الدنيا وعجائبها وقد قذفوا من كل جانب، مطرودين حيث طردتهم شهواتهم وعداواتهم وكبرياؤهم وحروبهم وطمعهم وشرهم عن تلك المعاني العالية
(حاشية: تفسير الجواهر، ج18، ص10.)،
وإِن أصيب أحَدٌ بهذه الأهواء يوماً بسبب التلوثات التي تملأ قلبه وروحه فإِنّه سيطرد أيضاً.
ج ـ وله كلام في مكان آخر، خلاصته: تبقى قائمة بين أرواح البشر المنتقلة إِلى عالم البرزخ مع الأرواح التي ما زالت مع البشر في الحياة الدنيا، وإذا ما توفر التشابه والسنخية فيما بينها فيمكن والحال هذه إحضارها والتكلم معها فتطلعها على أُمور واقعة ودقيقة جدّاً، ولا تتمكن من أن تعطي الصورة الحقيقية لبعض
الأمور، لأنها لا تنقل بدقة إِلا ما هو ضمن عالمها المحدود، ولا يمكنها أن تصل إِلى عالم أعلى منها، فكما أنّ الأسماك لا تتمكن من اختراق عالمها المائي، كذلك هذه الأرواح فإِنّها لا تقوى على الخروج لأكثر من حدود عالمها.
د ـ وقال بعض آخر: أظهرت الإِكتشافات الأخيرة وجود أشعة قوية تنبعث باستمرار من الفضاء البعيد، ويمكن استلامها على الأرض بوضوح بواسطة أجهزة استقبال خاصة، وإِنّ مصدر هذه الأمواج لا زال مجهولا، إِلاّ أن بعض العلماء يحتملون وجود كائنات حية كثيرة تعيش على الأجرام السماوية البعيدة وربّما كانت متفوقة علينا مدنياً فيرسلون هذه الأمواج ليخبرونا عن وجودهم وبعض أخبارهم، وفي تلك الأخبار مسائل جديدة علينا، ولكنّ الجن تسعى للإِستفادة من تلك المسائل فتطرد بتلك الأشعة القوية المقتدرة على أن لا تصل لفهم ما أرسل إِلى أهل الأرض (حاشية: لقرآن على مر العصور، ع . نوفل.).
كانت هذه آراء المفسّرين والعلماء وأقوالهم المختلفة.
نتيجة البحث:
طال بنا البحث في تفسير الآيات الآنفة الذكر، وقبل الخروج بمحصلة البحث لابدّ من ذكر بعض الملاحظات:
1 ـ أشار القرآن الكريم بكلمة "السماء" إِلى نفس هذه السماء التي يتبادر الذهن إِليها تارة، وإِلى السمو المعنوي والمقام العلوي تارة أُخرى.
فمثلا نقرأ في الآية (40) من سورة الأعراف (إنّ الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء).
فمن الممكن حمل معنى السماء هنا على الكناية عن مقام القرب من اللّه عزَّ
وجلّ، كما نقرأ في الآية العاشرة من سورة فاطر (إِليه يصعد الحكم الطيب والعمل الصالح يرفعه).
وكما هو بيّن أن كلا من الحكم الطيب والعمل الصالح ليسا من الأشياء التي يقال عنها ذلك، بل المراد هو الإِرتفاع إِلى مقام القرب الإِلهي والتشرف بالسمو والرفعة المعنوية.
والمقصود من تعبير "أنزل" و"نزل" في آيات القرآن هو النّزول من الساحة الإِلهية المقدسة على قلب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وقرأنا في تفسير الآية (24) من سورة إِبراهيم (ألم تر كيف ضرب اللّه مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء) إنّ أصل الشجرة الطيبة المشار إليها في الآية هو رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) والفرع علي (عليه السلام) (والفرع هنا هو الأصل الثانوي الذي يرتفع في السماء) والأئمّة عليهم السلام هم الفروع الأصغر
(حاشية: راجع تفسير البرهان، ج2، ص310.).
وكذلك ما نقرؤه في أحد الأحاديث: "كذلك الكافرون لا تصعد أعمالهم إِلى السماء".
لا ريب أنّ "السماء" المستعملة هنا ليست السماء المُشَاهَدَة.
نستنتج ممّا سبق أنّ "السماء" قد استعملت بمفهوميها المادي والمعنوي أو الحقيقي والمجازي.
2 ـ و"النجوم" كذلك، بمفهومها المادي.. هذه الأجرام السماوية التي تشاهد في السماء. ومفهومها المعنوي.. أُولئك العلماء والأشخاص الذين ينيرون درب المجتمعات البشرية.
فكما أنّ سالك الصحراء وعابر البحر يستهديان بالنجوم والليالي الحالكة الداكنة، فكذلك المجتمعات البشرية، فإِنّها تسلك الطريق السليمة لترشيد حياتها
ونيل سعادتها بنور أُولئك المؤمنين الواعين من العلماء والصالحين.
وفي الحديث المعروف عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "مثل أصحابي فيكم كمثل النجوم بأيّها اقتديتم اهتديتم"
(حاشية: سفينة البحار، ج2، ص9.)
وهو إِشارة جلية لهذا المعنى.
كما نقرأ في تفسير علي بن إِبراهيم في ذيل الآية (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر)
(حاشية: الأنعام، 97.)
إنّ الإِمام (عليه السلام) قال: "النجوم آل محمد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم"
(حاشية: نور الثقلين، ج1، ص750.).
3 ـ يستفاد من الرّوايات العديدة التي وردت في تفسير الآيات المبحوثة، أن منع الشياطين من الصعود إِلى السماوات وطردها بالشهب تمّ حين ولادة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ويستفاد من بعضها أنّ ذلك حدث أثناء ولادة عيسى بن مريم(عليه السلام)كذلك ولكن لفترة معينة، وأمّا عند ولادة نبيّنا الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) فقد تمّ المنع بشكل كامل (حاشية: نور الثقلين، ج3، ص5 ـ تفسير القرطبي، ج5، ص3626.).
ومن كل ما تقدم يمكننا القول: إِن "السماء" كناية عن سماء الحق والإِيمان، والشياطين تسعى أبداً لا ختراق هذه السماء والتسلل إِلى قلوب المؤمنين المخلصين عن طريق تخدير حماة الحق بأنواع الوساوس لصرعهم.
ولكن علم وتقوى أولياء اللّه وقادة دعوة الحق من الأنبياء والأئمّة عليهم السلام والعلماء العاملين كفيل بأن يبعد عبدة الجبت والطاغوت عن هذه السماء.
وهذا ما يساعدنا على فهم ذلك الترابط بين ولادة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)أو ولادة المسيح (عليه السلام)، وبين طرد الشياطين عن السماء.
ويساعدنا كذلك على أن نفهم تلك الرابطة بين الصعود إِلى السماء والإِطلاع على الأسرار، لتيقننا بعدم وجود أخبار خاصّة بين طبقات هذه السماء المشاهدة، وكل ما هناك لا يتعدى عجائب الخلقة التي صورها الباري جل شأنه والتي يمكن دراسة الكثير منها على سطح الأرض، والذي ربما أصبح شبيه بالبديهي من أن الأجرام السماوية المنتشرة في الفضاء اللامتناهي بعضها أجرام فاقدة للحياة وأُخرى حية، ولكنّ حياتها ليست كحياتنا.
ولا بدّ من الإِلتفات إِلى أنّ مسألة وجود الشهب منحصرة ضمن منطقة
الجوي للأرض فقط، وذلك حينما تلتهب تلك الصخور المتساقطة صوب الأرض من خلال احتكاكها بالهواء، أمّا خارج منطقة الغلاف الجوي فخال من الشهب. نعم، هناك صخور وكرات تسبح في الفضاء إِلاّ أنّها لا تسمى شهباً إِلاّ بعد دخولها في منطقة الغلاف الجوي فتلتهب وتظهر للعيان على هيئة خط ناري واضح تخيل للناظر أنّها نجمة متحركة بسرعة.
وكما هو معلوم، فإِنّ إِنسان العصر الحديث قد نفذ مراراً من هذه المنطقة، بل وغالى في نفوذه حتى وطأت قدماه سطح القمر (علماً بأنّ سمك الغلاف الجوي يبلغ من مائة إِلى مائتي كيلومتر طولا.. وأنّ القمر يبعد عن الأرض بأكثر من ثلاثمائة ألف كيلومتر).
فإِنّ كان المقصود من الشهب في الآية عين الشهب المشاهدة لنا، فيمكن القول: إِنّ علماء البشر قد اكتشفوا هذه المنطقة ولم يجدوا الأسرار الخاصة المدعاة.
والخلاصة: يظهر لنا من خلال ما ذكر من قرائن وشواهد كثيرة أن المقصود من السماء هو.. سماء الحق والحقيقة، وأنّ الشياطين ذوي الوساوس يحاولون أن يجدوا لهم سبيلا لاختراق السماء واستراق السمع، ليتمكنوا من إِغواء الناس بذلك، ولكنّ النجوم والشهب (وهم القادة الربانيون من الأنبياء والأئمّة والعلماء) يبعدونهم ويطردونهم بالعلم والتقوى. ولكنْ.. بما أن القرآن الكريم بحر غير متناه، فلا ينبغي البناء القطعي على هذا التأويل، وربّما المستقبل سيحفل بتفسير آخر لهذه الآيات مستنداً على حقائق لم نصل لها في زماننا.
( اشراقة القرآن وسرعة الضوء)
قال تعالى:
إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ {الصافات/6} وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ {الصافات/7} لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ {الصافات/8} دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ {الصافات/9} إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ {الصافات/10}.
قال السيد عبد الله شبر رحمه الله تعالى:
وقال الجن ( وأنا لمسنا السماء ) مسسناها مستعار للطلب أي طلبنا بلوغها لاستراق السمع ( فوجدناها ملئت حرسا شديدا ) من الملائكة ( وشهبا ) جمع شهاب وهو كوكب الرجم وهذا حين بعث النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ( وأنا كنا ) قبل مبعثه ( نقعد منها مقاعد ) خالية من الحرس والشهب ( للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا ) قد رصد ليرجم به ( وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض ) يمنع الاستراق ( أم أراد بهم ربهم رشدا ) خيرا.
المصدر تفسير شبر - السيد عبد الله شبر -ص 535.
وقد اشكل على هذه الاية الكريمة بهذا الاشكال:-
الشبهة
يرسم القرآن صورة لتتبع الشهاب للجن المسترق للسمع دعنا نتأملها:
وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا { 8 } وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا { 9 } الجن و نفس المعني يتكرر إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب { 6 } وحفظا من كل شيطان مارد { 7 } لا يسمعون إلى الملأ الأعلى ويقذفون من كل جانب { 8 } دحورا ولهم عذاب واصب { 9 } إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب { 10 }الصافات
الصورة الآن كما هو واضح من الاية ان الجن كانت تصل الي السماء و تلمسها و تسمع الاخبار ثم تعود الي البشر لتخبرهم بالمستقبل و عند بعثة الرسول تحول الموضوع بان الجني لن يستطيع لانه يتبعه شهاب ثاقب وتأمل اللفظ ((يتبعه ))بدقة هنا اتجاه الحركة تتبع اي خلف الجنى نستنتج من هذا ان الجني أبطأ من الشهاب سرعة و الا كان الشهاب لن يصل اليه ليحرقه او يخبله سعة الكون المادي من نجوم و مجموعات شمسية و مجرات و سدم التي تم رصدها بأجهزة حوالي مليار سنة ضوئية من مرصد بالومار بكاليفورنيا اينشتين جعل نصف القطر 35 مليار سنة ضوئية اي ان السماء الدنيا تبعد عنا 35 مليار سنة حسب المعادلات و بالنظر اليقيني مليار سنة دعنا نعتبر ان اينشتين كلامه نظري لا قيمة له ودعنا نعتبر اننا خدعنا في الاجهزة بنسبة خطأ 100 مليون مرة وهذا طبعا احتمال لا معني له اذا الكون ابعاده بدلا من مليار سنة تصبح 10 سنوات ضوئية فقط وهذا افتراض سخيف جداو دعنا نعتبر ان الشهاب يتحرك بسرعة معروفة قصوي ا/10 من سرعة الضوء اي 30 الف كيلومتر في الثانية وهذه سرعة خيالية للشهاب و دعنا نعتبر ان الجن المضروب سرعته تساوي سرعة الشهاب كما بينا فلا يمكن ان تكون اكبر والا كان تتبع الشهاب له لا معنى له اذا ليصل الجن الي السماء ليسترق السمع يحتاج الي 100 سنة و ليعود يحتاج الي مئة سنة اخري اي 200 سنة يكون الخبر قديم جدا و كما راينا ان الاحتمالات الموضوعة بها الكثير من التساهل فكيف كان يسترق الجن السمع اما ان القران خطأ واما السماء قريبة جدا لكي تكون رحلة الذهاب و الاياب مقبولة و دعنا نجعل شهر ذهاب و شهر اياب ليكون الموضوع مقبولا مع انه خبر سيكون قديم جدا و لكن دعنا نحسب اين تكون السماء 3 ايام ضوئية علي اساس ان السرعة 1/10 من سرعة الضوء وهي مبالغ بها اذا هل توجد سماء قابلة للطي علي بعد ثلاثة ايام ضوئية لم يستطع العلماء رؤيتها.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الجواب
للانصاف هذه الاثارة والاشكالية تتصف بدقة وملاحظة مهمة تستدعي وقفة للدراسة وللجواب عليها أقول:
هذه الاشكالية مبنية على ثلاث مقدمات مطوية تقدر صحتها حتى يتوجه الاعتراض وهي:-
المقدمة الاولى
ان منطقة (الانباء واستراق السمع) تقع في السماء الاولى وهي في موضع أبعد من الغلاف الجوي بمعنى ان طرف الغلاف الجوي ليس جزءا من السماء الاولى.
هذه المقدمة غير ثابتة
ولكن ذلك غير لازم فليس هناك مانع ان يكون طرف الغلاف الجوي ونهايته (10000 الى 30000 كيلو متر) عبارة عن بداية السماء الاولى ومنطقة الانباء ومصدر الاخبار تقع بطرف الغلاف الجوي بافتراض ان السماء الاولى ذات سمك عريض اي ممتدة الى الغلاف الجوي اذ لا ضرورة لان تكون بداية السماء بعد كل تلك المسافات المذكورة في الاشكالية (الخاطرة) وهذه الفرضية كافية في تهاوي الاشكالية وانهيارها تماما.
المقدمة الثانية
وتنبني الاشكالية على مقدمة اخرى وهي ان المعجزة تعني خرق العادة وليس متاحا لها مخالفة قوانين العقل فالمعجزة لا تسمح باجتماع النقيضين او ارتفاعهما ولا تصل امكانيات المعجزة الى ايجاد المعلول بدون علة حيث ان هذا مستحيل.
تقول النظرية النسبية لانشتاين بان الجسم يستحيل عليه ان يصل لسرعة الضوء فضلا عن ان يتجاوزها وسرعة الضوء حوالي ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية الواحدة (30000).
وعلى هذا الاساس لا يمكن للشهب ان تصل سرعتها للضوء او تكون اسرع منها فذلك مستحيل بمنطق الفيزياء.
قال الشيخ جعفر السبحاني حفظه الله تعالى:
المشهورة في تعريف المعجزة أنّها: «أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدي، مع عدم المعارضة»(حاشية: شرح التجريد، لنظام الدين القوشجي، ص 465)).....
وإليك توضيح هذا التعريف.
1 ـ الإعجاز خارق للعادة وليس خارقاً للعقل
إنّ هناك من الأمور ما تعدّ خارقة للعقل، أي مضادة لحكم العقل الباتّ، كاجتماع النقيضين وارتفاعهما، ووجود المعلول بلا علّة، وانقسام الثلاثة إلى عددين صحيحين... فإنّ هذه أمور يحكم العقل باستحالتها وامتناع تحققها.
انتهى كلامه زيد مقامه المصدر ( محاضرات في الالهيات ص 258).
أقول: هناك فكرة أخرى ترى ان المعجزة يمكنها دخول المنطقة المحضورة عقلا فليس هناك شيء مستحيل بالنسبة للخالق القادر على كل شيء، ولكن الصحيح ان المعجزة لا تطال المنطقة المستحيلة فالاعجاز يختص بدائرة الممكنات كما القدرة الالهية لا تتناول المحال غير ان النقطة الجديرة بالاهتمام هي انه بالامكان التوفيق بين فكرة انكماش المعجزة عن المستحيلات وبين فكرة انطلاق الجن بسرعة أعلى من الضوء بعلة اخرى لا نعلمها او قل بقانون فيزيائي خاص فلسنا ندعي ولادة المعلول بدون علة ولكننا ندعي امكانية ان يغير الخالق تبارك وتعالى القانون الفيزيائي ضمن معادلة خاصة وظرف خاص لصالح هدف ضرب الجن الذين تسول لهم انفسهم استراق السمع.
غير اننا لا ندعي حتمية هذه الفرضية وانما ندعي ان مجرد احتمالها وامكانيتها تضرب الاشكالية من اساسها وتهدم بنيانها.
المقدمة الثالثة
والمقدمة الثالثة التي تنبني عليها الاشكالية هي ان الايات القرآنية تقصد بيان المعنى الحسي للسماء والشهب وعلى ذلك يتوجه الاعتراض والاشكال.
غير ان هذه المقدمة غير ثابتة وليست متيقنة فقد فسرها جملة من المفسرين بمعنى رمزي واعتبروها كناية عن امر معنوي من باب ضرب الامثال ومفاده مثل افتراض ان تكون السماء كناية عن عالم ملكوتي وان الشهب عبارة عن نور الملكوت المانع من استراق السمع ومعرفة الاخبار والانباء.
ومثل هذا الطرح مال له العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان وتبناه الشيخ ناصر مكارم الشيرازي كما نقله عن مفسرين اخرين مثل الطنطاوي في تفسير الجواهر.
ولكني في الوقت الذي لا استطيع فيه الجزم بنفي هذا التفسير المعنوي، لا ارى ضرورة المصير له فان ذلك انما يكون حتميا اذا ثبتت استحالة الحمل على المعنى الحسي.
غير ان هذه الاستحالة غير ثابتة لما اوضحناه في بطلان كل من المقدمتين الاولى والثانية.
علاوة على اضافة هذا التوضيح وهو ان اختراق البشر للغلاف الجوي بل وما هو ابعد منه بمسافات طويلة لا يعني ان المنطقة التي يسترق منها السمع وتؤخذ منها الاخبار ليست موجودة هناك فبالامكان افتراض انها قائمة هناك، لكنها ذات شفرة لا يستطيع البشر قرائتها فما اكثر اسرار الكون فكم من الاشياء المحيطة بنا لم يتمكن البشر من معرفتها الا بعد قرون طويلة من عمر البشرية والان في ظل التطور التكنولوجي لا يمكنه ان يحس بالاشعة تحت الحمراء او الاشعة فوق البنفسجية أوموجات الراديو والهاتف والتلفزيون والموجة فوق الصوتية وغيرها الا بواسطة اجهزة حديثة قادرة على قراءة تلك الموجات وفك تلك الشفرات وبيانها للحس بدل خفائها عنه فهي أشياء مخفية عن الحواس المجردة عن القارئ الخاص مثل جهاز السونار وجهاز الراديو.
فالنتيجة انه بالامكان وجود تلك الاشياء التي لا تكشفها حواس الانسان المجردة ولا آلاته الحديثة فهي ذات شفرة يستطيع مثل الجن قرائتها بسونار خاص او قل جهاز خاص لا نملكه معاشر البشر.
ومتى صدقت هذه الامكانية فلا ضرورة لفرضية معنوية السماء والشهب غير ان مجرد احتمال هذه الفرضية يسقط الاشكالية وينسفها من قواعدها.
لكنها غير ضرورية لوجود الفسحة من خلال اكثر من فرضية لابطال الاعتراض كما عرفت والله العالم.
وقد اتضح لك عزيزي القارئ بما لا مزيد عليه عدم ثبوت بطلان حسية الاشياء المشار اليها لامكانية عدم قدرة حواس الانسان على ملاحظتها.
اجل فعدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود.
ومع ذلك في النهاية لا املك ان انفي التفسير المعنوي كما لا اثبته لعدم الضرورة له والله العالم.
وفي الختام - تتميما للفائدة - أود نقل ما ذكره سماحة الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في كتابه المثل في تفسير كتاب الله المنزل - الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - ج 8 – ص 42 – 48 حيث يقول:
يصرّ جمع لا بأس به من المفسّرين (وخصوصاً القدماء منهم) على الوقوف عند المعنى الظاهري لهذه الآيات.
فالسماء هي هذه السماء، والشهاب هو ما نراه ونسميه شهاباً (أي الكرات الصغيرة التي تسبح في الفضاء، وتخترق بين الحين والآخر جاذبية الأرض فتنطلق نحوها بسرعة فتحترق نتيجةً لا حتكاكها بالهواء المسبب لزيادة حرارتها).
والشيطان هو ذلك الموجود الخبيث المتمرد الذي يحاول أن يخترق أعماق السماوات ليطلع على أخبار ذلك العالم ليوصل تلك الأخبار إِلى أوليائه الأشرار على الأرض من خلال استراقه السمع، ولكنّه يُمنع من الوصول إِلى هدفه برميه بالشهب.
(حاشية: ذكر هذا التّفسير الفخر الرازي في تفسيره الكبير، وكذلك الآلوسي في (روح المعاني) بعد طرح الإشكالات المختلفة في الموضوع اعتماداً على علم الهيئة والطبقات الفلكية القديم وأمثال ذلك. وأكثر العلماء فيه البيان من خلال الإِجابة على تلك التساؤلات، ولا ضرورة لذكرها لما وصل إليه علم الفلك في يومنا.)
3 ـ وذهب جمع من المفسّرين مثل العلاّمة الطّباطبائي في (تفسير الميزان) والطنطاوي في تفسير (الجواهر) إِلى حمل هذه الآيات على التشبيه والكناية وضرب الأمثال، أو ما يسمّى بـ (البيان الرمزي) ثمّ شرحوا ذلك بصور عدّة:
ألف: نقرأ في تفسير الميزان: (أورد المفسّرون أنواعاً من التوجيه لتصوير استراق السمع من الشياطين ورميهم بالشهب، وهي مبينة على ما سبق إِلى الذهن من ظاهر الآيات والأخبار، إِنّ هناك أفلاكاً محيطة بالأرض تسكنها جماعات من الملائكة ولها أبواب لا يلج فيها شيء إِلاّ منها، وإِنّ في السماء الأُولى جمعاً من الملائكة بأيديهم الشهب يرصدون المسترقين للسمع من الشياطين فيقذفونهم بالشهب.
وقد اتّضح اليوم اتضاح عيان بطلان هذه الآراء.
ويحتمل ـ واللّه العالم ـ أنّ هذه البيانات في كلامه تعالى من قبيل الأمثال المضروبة تصور بها الحقائق الخارجة عن الحس في صورة المحسوس لتقريبها من الحس، وهو القائل عزَّ وجلّ في سورة العنكبوت (43): (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إِلاّ العالمون)، وهو كثير في كلامه تعالى ومنه العرش والكرسي واللوح والكتاب.
وعلى هذا يكون المراد من السماء التي تسكنها الملائكة عالماً ملكوتياً ذا أفق أعلى، نسبته إِلى هذا العالم المشهود نسبة السماء المحسوسة بأجرامها إِلى الأرض، والمراد لاقتراب الشياطين من السماء واستراقهم السمع وقذفهم بالشهب اقترابهم من عالم الملائكة للإِطلاع على أسرار الخلقة والحوادث المستقبلة ورميهم بما لا يطيقونه من نور الملكوت.
(حاشية: تفسير الميزان، ج17، ص 124 (في تفسير الآيات من سورة الصافات).
ب ـ والطنطاوي في تفسيره المعروف، هكذا يرى: (إِنّ العلماء المحتالين
المرائين الذين يتبعهم عوام الناس دون أن تكون لهم الأهلية لأن يطلعوا على عجائب السماوات وبدائع العالم العلوي وأجرامه غير المحدودة، وما يحكمها من نظم وحساب دقيق، فإِنّ اللّه تعالى يمنع عنهم هذا العلم ويجعل هذه السماء المليئة بالنجوم الوضاءة بكل أسرارها في اختيار مَنْ له عقل ونباهة وإِخلاص وإِيمان، ومن الطبيعي أن يمنع هذا الصنف من العلماء من النفوذ في أسرار هذه السماء، فكل شيطان يطرد عن الحضرة الإِلهية سواء كان من البشر أو من غيرهم، وليس له حق الوصول إلى هذه الحقائق، ومتى ما اقترب منها طرد عنها، فيمكن أن يعيش هكذا أشخاص سنوات كثيرة ثمّ يموتون ولكنّهم لا يدركون هذه الأسرار أبداً، لهم أبصار ينظرون بها ولكن لا تستطيع رؤية هذه الحقائق، أليس العلم لا يناله إِلاّ عشاقه ولا يدرك جماله ولا ينظر إِليه إِلاّ عرفاؤه(حاشية: تفسير الجواهر، ج8، ص11.)؟!
ويقول في مكان آخر: ما المانع أن تكون هذه التعبيرات كناية، فيكون المنع الحسي رمزاً للمنع العقلي، والكناية من أجمل أنواع البلاغة، ألاّ ترى أن كثيراً من الناس حولك محبوسون في هذه الأرض، غائبةٌ أبصارهم، لا يسمعون إِلى الملأ الأعلى ولا يفهمون رموز هذه الدنيا وعجائبها وقد قذفوا من كل جانب، مطرودين حيث طردتهم شهواتهم وعداواتهم وكبرياؤهم وحروبهم وطمعهم وشرهم عن تلك المعاني العالية
(حاشية: تفسير الجواهر، ج18، ص10.)،
وإِن أصيب أحَدٌ بهذه الأهواء يوماً بسبب التلوثات التي تملأ قلبه وروحه فإِنّه سيطرد أيضاً.
ج ـ وله كلام في مكان آخر، خلاصته: تبقى قائمة بين أرواح البشر المنتقلة إِلى عالم البرزخ مع الأرواح التي ما زالت مع البشر في الحياة الدنيا، وإذا ما توفر التشابه والسنخية فيما بينها فيمكن والحال هذه إحضارها والتكلم معها فتطلعها على أُمور واقعة ودقيقة جدّاً، ولا تتمكن من أن تعطي الصورة الحقيقية لبعض
الأمور، لأنها لا تنقل بدقة إِلا ما هو ضمن عالمها المحدود، ولا يمكنها أن تصل إِلى عالم أعلى منها، فكما أنّ الأسماك لا تتمكن من اختراق عالمها المائي، كذلك هذه الأرواح فإِنّها لا تقوى على الخروج لأكثر من حدود عالمها.
د ـ وقال بعض آخر: أظهرت الإِكتشافات الأخيرة وجود أشعة قوية تنبعث باستمرار من الفضاء البعيد، ويمكن استلامها على الأرض بوضوح بواسطة أجهزة استقبال خاصة، وإِنّ مصدر هذه الأمواج لا زال مجهولا، إِلاّ أن بعض العلماء يحتملون وجود كائنات حية كثيرة تعيش على الأجرام السماوية البعيدة وربّما كانت متفوقة علينا مدنياً فيرسلون هذه الأمواج ليخبرونا عن وجودهم وبعض أخبارهم، وفي تلك الأخبار مسائل جديدة علينا، ولكنّ الجن تسعى للإِستفادة من تلك المسائل فتطرد بتلك الأشعة القوية المقتدرة على أن لا تصل لفهم ما أرسل إِلى أهل الأرض (حاشية: لقرآن على مر العصور، ع . نوفل.).
كانت هذه آراء المفسّرين والعلماء وأقوالهم المختلفة.
نتيجة البحث:
طال بنا البحث في تفسير الآيات الآنفة الذكر، وقبل الخروج بمحصلة البحث لابدّ من ذكر بعض الملاحظات:
1 ـ أشار القرآن الكريم بكلمة "السماء" إِلى نفس هذه السماء التي يتبادر الذهن إِليها تارة، وإِلى السمو المعنوي والمقام العلوي تارة أُخرى.
فمثلا نقرأ في الآية (40) من سورة الأعراف (إنّ الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء).
فمن الممكن حمل معنى السماء هنا على الكناية عن مقام القرب من اللّه عزَّ
وجلّ، كما نقرأ في الآية العاشرة من سورة فاطر (إِليه يصعد الحكم الطيب والعمل الصالح يرفعه).
وكما هو بيّن أن كلا من الحكم الطيب والعمل الصالح ليسا من الأشياء التي يقال عنها ذلك، بل المراد هو الإِرتفاع إِلى مقام القرب الإِلهي والتشرف بالسمو والرفعة المعنوية.
والمقصود من تعبير "أنزل" و"نزل" في آيات القرآن هو النّزول من الساحة الإِلهية المقدسة على قلب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وقرأنا في تفسير الآية (24) من سورة إِبراهيم (ألم تر كيف ضرب اللّه مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء) إنّ أصل الشجرة الطيبة المشار إليها في الآية هو رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) والفرع علي (عليه السلام) (والفرع هنا هو الأصل الثانوي الذي يرتفع في السماء) والأئمّة عليهم السلام هم الفروع الأصغر
(حاشية: راجع تفسير البرهان، ج2، ص310.).
وكذلك ما نقرؤه في أحد الأحاديث: "كذلك الكافرون لا تصعد أعمالهم إِلى السماء".
لا ريب أنّ "السماء" المستعملة هنا ليست السماء المُشَاهَدَة.
نستنتج ممّا سبق أنّ "السماء" قد استعملت بمفهوميها المادي والمعنوي أو الحقيقي والمجازي.
2 ـ و"النجوم" كذلك، بمفهومها المادي.. هذه الأجرام السماوية التي تشاهد في السماء. ومفهومها المعنوي.. أُولئك العلماء والأشخاص الذين ينيرون درب المجتمعات البشرية.
فكما أنّ سالك الصحراء وعابر البحر يستهديان بالنجوم والليالي الحالكة الداكنة، فكذلك المجتمعات البشرية، فإِنّها تسلك الطريق السليمة لترشيد حياتها
ونيل سعادتها بنور أُولئك المؤمنين الواعين من العلماء والصالحين.
وفي الحديث المعروف عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "مثل أصحابي فيكم كمثل النجوم بأيّها اقتديتم اهتديتم"
(حاشية: سفينة البحار، ج2، ص9.)
وهو إِشارة جلية لهذا المعنى.
كما نقرأ في تفسير علي بن إِبراهيم في ذيل الآية (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر)
(حاشية: الأنعام، 97.)
إنّ الإِمام (عليه السلام) قال: "النجوم آل محمد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم"
(حاشية: نور الثقلين، ج1، ص750.).
3 ـ يستفاد من الرّوايات العديدة التي وردت في تفسير الآيات المبحوثة، أن منع الشياطين من الصعود إِلى السماوات وطردها بالشهب تمّ حين ولادة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، ويستفاد من بعضها أنّ ذلك حدث أثناء ولادة عيسى بن مريم(عليه السلام)كذلك ولكن لفترة معينة، وأمّا عند ولادة نبيّنا الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) فقد تمّ المنع بشكل كامل (حاشية: نور الثقلين، ج3، ص5 ـ تفسير القرطبي، ج5، ص3626.).
ومن كل ما تقدم يمكننا القول: إِن "السماء" كناية عن سماء الحق والإِيمان، والشياطين تسعى أبداً لا ختراق هذه السماء والتسلل إِلى قلوب المؤمنين المخلصين عن طريق تخدير حماة الحق بأنواع الوساوس لصرعهم.
ولكن علم وتقوى أولياء اللّه وقادة دعوة الحق من الأنبياء والأئمّة عليهم السلام والعلماء العاملين كفيل بأن يبعد عبدة الجبت والطاغوت عن هذه السماء.
وهذا ما يساعدنا على فهم ذلك الترابط بين ولادة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)أو ولادة المسيح (عليه السلام)، وبين طرد الشياطين عن السماء.
ويساعدنا كذلك على أن نفهم تلك الرابطة بين الصعود إِلى السماء والإِطلاع على الأسرار، لتيقننا بعدم وجود أخبار خاصّة بين طبقات هذه السماء المشاهدة، وكل ما هناك لا يتعدى عجائب الخلقة التي صورها الباري جل شأنه والتي يمكن دراسة الكثير منها على سطح الأرض، والذي ربما أصبح شبيه بالبديهي من أن الأجرام السماوية المنتشرة في الفضاء اللامتناهي بعضها أجرام فاقدة للحياة وأُخرى حية، ولكنّ حياتها ليست كحياتنا.
ولا بدّ من الإِلتفات إِلى أنّ مسألة وجود الشهب منحصرة ضمن منطقة
الجوي للأرض فقط، وذلك حينما تلتهب تلك الصخور المتساقطة صوب الأرض من خلال احتكاكها بالهواء، أمّا خارج منطقة الغلاف الجوي فخال من الشهب. نعم، هناك صخور وكرات تسبح في الفضاء إِلاّ أنّها لا تسمى شهباً إِلاّ بعد دخولها في منطقة الغلاف الجوي فتلتهب وتظهر للعيان على هيئة خط ناري واضح تخيل للناظر أنّها نجمة متحركة بسرعة.
وكما هو معلوم، فإِنّ إِنسان العصر الحديث قد نفذ مراراً من هذه المنطقة، بل وغالى في نفوذه حتى وطأت قدماه سطح القمر (علماً بأنّ سمك الغلاف الجوي يبلغ من مائة إِلى مائتي كيلومتر طولا.. وأنّ القمر يبعد عن الأرض بأكثر من ثلاثمائة ألف كيلومتر).
فإِنّ كان المقصود من الشهب في الآية عين الشهب المشاهدة لنا، فيمكن القول: إِنّ علماء البشر قد اكتشفوا هذه المنطقة ولم يجدوا الأسرار الخاصة المدعاة.
والخلاصة: يظهر لنا من خلال ما ذكر من قرائن وشواهد كثيرة أن المقصود من السماء هو.. سماء الحق والحقيقة، وأنّ الشياطين ذوي الوساوس يحاولون أن يجدوا لهم سبيلا لاختراق السماء واستراق السمع، ليتمكنوا من إِغواء الناس بذلك، ولكنّ النجوم والشهب (وهم القادة الربانيون من الأنبياء والأئمّة والعلماء) يبعدونهم ويطردونهم بالعلم والتقوى. ولكنْ.. بما أن القرآن الكريم بحر غير متناه، فلا ينبغي البناء القطعي على هذا التأويل، وربّما المستقبل سيحفل بتفسير آخر لهذه الآيات مستنداً على حقائق لم نصل لها في زماننا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق